القائمة الرئيسية

الصفحات

 


 عندما تفقد القوى الأخلاقيه زمام المبادرة

على هامش الحروب ينتشر الفساد في المجتمعات وتنتشر الرذيله ويسود الدهماء مفاصل الحياة الإجتماعيه والإقتصاديه للمجتمعات فالبلطجه تصبح هي الحياة المثلى لقطاعات واسعه من الناس في سباقهم المحموم على الغذاء وسبل البقاء على قيد الحياة وإقتناص الفرص ....ففي ذروة الحرب العالمية الثانية وحين كانت حمم الموت تتساقط على لندن والمدن البريطانيه وخلال إجتماعات تشرشل "رئيس الوزراء البريطاني في حينه" بأعضاء حكومته كان أول ما يتم مناقشته هو سؤاله لوزير العدل عن الوضع القانوني للدوله وسلامة الإجراءات المتبعه فإذا كان الإيجاز يحمل بشائر مطمئنه فيتم إستكمال بقية الجلسة ومناقشة الموضوعات التاليه أما كان هنالك ملاحظات فيتم إيلاءها الأهمية الأولى قبل الجبهات والجيوش .

أن إيراد هذا النموذج لسلوك رئيس الوزراء البريطاني في هذا السياق هو للتدليل على أهمية وسلامة الجبهه الداخلية وتماسكها والتي ستصبح  بدون قوانين ناظمة ورعايتها ستصبح عرضة للتفكك وهو وعي مسبق لأن الأعداء والخصوم وفي ذروة الصراعات الكبرى فإن من أولى أوليات إستهدافاتهم هي الجبهة الداخلية لخصومهم بالطرق العنيفه التي عرفتها الحروب التقليديه بإستهداف مصادر الغذاء والماء والكهرباء والتدفئة أو عن طريق الحروب النفسيه ومن أبرز مظاهرها بث الشائعات والنكات السياسيه بطريقه علمية ومدروسة وكل ذلك في سبيل خلق الإضطرابات المجتمعية الداخليه والتي أن تمكنت من التسلل الى أذهان الناس ومست حياتهم بشكل مباشر ولم تجد المعالجات الناظمة المناسبه لها  فستسود الفوضى بكل تأكيد والذي سيكون وقعها أكبر بكثير من الرصاص والقذائف على الجبهات الخارجيه .

منذ قرن من الزمان وفي أوج الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفي ظل غياب السلطه الناظمه في غالبية موجات الصراع ما قبل عام 1994 حيث تم تشكيل السلطه الوطنيه الفلسطينيه أستطاع الشعب الفلسطيني إستنباط طرق بديله مستمده من التراث والأخلاقيات الفلسطينيه والتي شكلت البدائل الممكنه للمحافظة على تماسك الأسر والعائلات ، ففي أوج التهجير والنكبه عام 1948 فتحت المدارس في الضفه الغربية وغزة وشكلت اللجان الأهلية للإغاثه في عموم المدن الفلسطينيه لنصب الخيام وتوزيع الغذاء وتبارت الأسر الميسورة في مد يد العون للاجئين الفلسطينيين بجهود أخذت الطابع شبه المنظم في كثير من الأحيان من قبل فعاليات وطنيه ومجالس بلدية وقروية ومخاتير وأحزاب وقوى سياسيه وفصائل وطنيه كانت متواجده على ساحة العمل الوطني خلال تلك الحقب من الزمن وقد تم تجاوز غالبية هذه الأحداث بنتائج إغاثيه لم تكن على النحو الأمثل تماما الى أنها الى حد كبير تمكنت من سد الأغلب والأعم من إحتياجات الناس وبقيت الجبهة الداخليه للمواطنين الفلسطينيين متماسكه الى حد بعيد .

بعد أن إقيمت السلطه الوطنية الفلسطينيه في قطاع غزة والضفه الغربيه 1994 فقد تفجرت في المناطق الفلسطينيه عدة صراعات مع قوات الإحتلال كان ذروتها في إنتفاضة الأقصى ما بين الأعوام 2000 ــــ 2005 في ظل وزارات كانت قد أقيمت ومديريات تتبعها في كافة المحافظات الشماليه والجنوبيه على حد سواء وقد أنيط بها تحمل العبأ الأكبر لكافة الجهود الإغاثية ومع زيادة وتيرة الضغط العسكري لقوات الإحتلال وإتضاح بإن قوات الإحتلال ذاهبة الى تعميق مفاعيل هذا الصراع وتوسعته وذلك لوضع حد للمشروع السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينيه بإقامة الدولة الفلسطينيه وعاصمتها القدس فقد قامت السلطه الوطنيه الفلسطينيه بتشكيل لجان شعبيه موازية لعمل الوزارت وداعمه لجهودها على الأرض تبين أنها على قدر كبير من الفعاليه المجتمعيه وبخاصة بعد أن بدأت قوات الإحتلال بتدمير مقار السلطه الوطنيه الفلسطينيه العسكرية والمدنية على حد سواء مما قوض عمل الشرطه الفلسطنيه والمديريات الخدميه حيث باتت هذه اللجان المشكّله مسبقا ظهيرا لعمل السلطة وأجهزتها الشرطيه والأمنيه والمدنيه على حد سواء وقامت بسد فراغ كبير تركه غياب عمل الوزارات الخدميه ومديرياتها في كافة المحافظات .

أن الحرب الجاريه في قطاع غزة والمستمره منذ أكثر من عام قد سبق ، هي حرب لم يشهد لها الفلسطينين مثيلا سابقا وهي حرب تدميريه بكل ما للكلمه من معنى بكل تفاصيلها ويومياتها فبعد الهجوم الذي شنته حركة حماس وبصفتها حكومة الأمر الواقع في غزة في السابع من أكتوبر على مناطق غلاف غزة العسكرية والمدنيه وبكل المشاهد التي تناقلتها وسائل الإعلام من قتل ودمار وإحتجاز رهائن ....الخ من هذه التفاصيل الذي شاهدها العالم ، فقد خرج وزير الدفاع الإسرائيلي ليصف من شن الهجوم بالحيوانات البشريه وليعلن أمام العالم بإنه سيمنع إيصال الماء والكهرباء والمحروقات والغذاء والدواء لقطاع غزه وقام بإغلاق كافة المنافذ البريه لقطاع غزة وقام بمهاجمة معبر رفح بالطائرات مما أدى الى إغلاقه ولتتكرر التصريحات التي تحمل ذات المضامين عن حرب وجوديه بكل ما يحمله هذه الوصف من معاني تراجيديه للسكان المدنيين والتي ستخوضها إسرائيل للقضاء على حركة حماس عسكريا ومدنيا وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين وبدأ مسلسل الموت من الجو والبر والبحر ومعه مسلسل الإخلاء والتهجير والذي وصل لدى الكثير من العائلات للمرة العاشره بكل ما يتضمنه من مآسي يصعب وصفها والتي نقلت جزءا يسيرا منه وسائل الإعلام .

تتطالعنا وسائل الإعلام وشبكات التواصل الإجتماعي يوميا عن حالة غير مسبوقه من الفوضى والتردي الأمني والسطو على المساعدات التي توسط العالم بأسره حتى تمكن من أدخال القسط اليسير منها الى القطاع المحاصر وقد وصلت ذروة هذه الفوضى وفقدان السيطره في قطاع غزة الى السطو المسلح وسرقة 109 شاحنات من المساعدات القادمة للمهجرين والبائسين من أصل 150 شاحنه وبين صدق أو لا تصدق فإن المواد الإغاثيه القادمة لوكالات الإغاثه الدوليه والمكتوب عليها بالخط العريض "ليست للبيع" تباع على البسطات في الأسواق بأرقام فلكيه تتجاوز سعرها الحقيقي بعشرة أضعاف وقد يزيد أمام ناظري مليوني بائس وجائع ومعوز .. وأمام هذاالمشهد لا بد من إطلالة تحليليلة للوقوف على الأسباب التي أوصلتهم الى مثل هذا المشهد الصادم والعبثي بكل ما للكلمه من معنى نوجزه بما هو أت :ـ 

1ـ الى جانب العمليات العسكريه واسعة النطاق فقد إنبرت قوات الإحتلال الى أحداث دمار واسع في البنى التحتيه لمنظومة الحكم المدني لحكم حماس في كامل قطاع غزة وإستهداف كوادرها المدنيه بإعتبارهم أعضاء في حركة حماس وحتى ولو لم ينخرطوا مباشرة بالأعمال العسكريه فالمستشفيات باتت هدفا أول للعمليات العسكريه بإعتبار أنها باتت ملاذا لكوادر حماس العسكريه والمدنيه فالجامعات والمدارس ومدريات الوزارات الخدميه والبلديات والمجالس المحليه تم تدميرها على نطاق واسع ولم يبقى تقريبا أية بنى تحتيه مدنيه على كامل أرض قطاع غزة وأن أي مواكبه أمنيه لقافلات المساعدات كان يتم إستهدافها مباشرة وحتى محاولات الإلتفاف على المواكبه الأمنيه الرسميه بمواكبه بزي مدني فقد تم إستهدافها أيضا

2ـ قامت قوات الإحتلال وبشكل ممنهج بتقويض عمل وحرية حركة الجسم الأكبر من المؤسسات الدوليه العامله في قطاع غزة وهي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) والتي تمتلك جيش من الموظفين قادر على التعامل مع المواضيع الإغاثية والإجتماعية والطبيه والتعليميه والطارئه وذلك بدعوى إنخراط عدد من موظفيها بأحداث السابع من أكتوبر ولم تكتفي قوات الإحتلال بالمعالجات التي أجرتها قيادة وكالة الغوث ولا بالتحقيقات الدوليه التي فتحت من قبل هيئة الأمم المتحده بل ولأسباب سياسيه تتعلق بتصفية قضية اللاجئين ذهبت الى مدى أبعد بإخراج المؤسسة الدوليه عن القانون ووقف التعامل معها تماما وبهذا باتت مقراتها ومدارسها ومركباتها هدفا لعمليات جيش الإحتلال .

3ـ لم يكن حال بقية المؤسسات الدوليه أفضل حالا بكثير فقد منحت هامشا للحركة في حدوده الدنيا فمنظمة الصليب الأحمر والهلال الأحمر وبقية المؤسسات الإغاثيه تعرضت للعديد من الحوادث وما إستهداف العاملين في برنامج المطبخ الأمريكي الى دليلا ساطعا على ذلك وعلى نوايا حكومة الإحتلال على الإمعان في تقويض أي شكل من أشكال العمل المؤسسي الممنهج .

4ـ لقد أساءت حركة حماس بشدة لموضوع المساعدات فقد بات واضحا بإن لغة التمييز في صرف المساعدات بين منتسبيها ومؤيدها من جهة وبقية المواطنين من جهة أخرى مما خلق فجوة من عدم الثقه بإجراءاتها والذي دفع بالكثيرين من الأسر الى أخذ ما يشعرون أنه حق لهم بالقوة والذي تطور لاحقا الى عمليات نهب وسطو وسرقه واسعة النطاق بل باتت حماس بنفسها تنظم عمليات السطو الأكبر على المساعدات بواسطة عناصرها بعد أن فقدت السيطره على تسلمها بالطرق النظاميه .

5ـ أحدثت حركة حماس فوضى جنونيه في الأسعار بعد أن الزمت التجار بدفع أكثر من ثلث بضائعهم التي يتمكنون من إدخالها الى قطاع غزة كضرائب عليها مما دفع التجار الى تغطية هذه الإقتطاعات برفع الأسعار على تجار البسطات والمفرق والذين بدورهم يضاعفون من أسعارها لتحقيق أكبر عائد مادي في ظل إنعدام الرقابة على حركة السوق والتي باتت حركة حماس معنية به وذلك لتوفير السيوله النقدية في محاولة لتغطية جزء من مرتبات منتسبيها من خلال بيعها للمساعدات التي يتم السطو عليها وما تقتطعه من التجار كذلك .

6ـ قوضت حركة حماس أية مساعي مجتمعية أو فصائليه لتشكيل لجان محليه لتسيير الأمور المعيشيه في غزه فمنطق الهيمنه والسيطره لا زال هو الحاكم لمن تبقى من قيادتها على قيد الحياة في قطاع غزة وحال لسانها يقول "ما دمت غير قادرا على إدارة الأوضاع بمفردي فلن يتمكن أحد آخر من ذلك أيضا ولو كانت الفوضى هي البديل الواقعي لحالة الفراغ " .

7ـ لا زالت المفاوضات الجاريه في القاهرة بخصوص تشكيل جسم مركزي لإدارة الحياة اليوميه في غزة تراوح في المكان بعد عشرات الإشتراطات والملاحظات والتحفظات التي وضعتها حركة حماس على خروج هذا الجسم الى حيز الوجود وأن كافة هذه التعقيدات والعراقيل التي تتعمد إنشائها باتت مفهومة لعموم المواطنين في غزة بإنها تعني التشبث بالبقاء على حكم غزة منفردة لأن الإنسحاب من المشهد يعنى الفناء بالنسبة لها .

أمام هذا المشهد الكارثي وفوضى السلاح فقد آثرت غالبية القوى الأخلاقية والمثقفه والمتعلمة في المجتمع الغزي بالتنحي جانبا والإنسحاب من المشهد ، وعندما إنسحبت هذه الشرائح من المشهد فقد بات الطريق سالكا لأصحاب منطق البلطجه والسطو للسيطره على الفراغ الناشئ ... وما دامت هذه القوى الأخلاقية على موقفها فمن المتعذر أن يحدث أي تغيير في أحوال الناس بل ستسوء الى ما هو أفظع من ذلك وحينها لن يكون أحدا بمنأى عن حالة الفوضى الذي تسببت به إسرائيل وحماس على حد سواء .  

        

  

                        

تعليقات