صية الجمل قتله
مثل
تناقلته الأعراب قديما ، عن "جمل ذاع صيته بالقوه والتحمل ، فبات مالكيه
يثقلون عليه الأحمال يوما إثر يوم ، حتى جاء يوم ليسقط تحت حمله ، ويهلك تماما ".....
وهذا الجمل يلخص حكايتنا مع مخيم جنين الآن في الضفة الغربية ، وفي نفس الوقت مع
قطاع غزة عموما ومخيم جباليا في شماله مع بعض الفروقات لأصول العبث وتكديس الأحمال
الموديه الى التهلكه ، فما يفصلنا عن مأثورة بطلنا الشعبي ياسر عرفات "من
جنين جراد الى جباليا جراد" قرابة ربع قرن من الزمن ، تبدلت بهم الأحوال بفعل
فاعلين كثر ، فبمنطق العلم ومراكز دراسات الغزاة ، إن أردت أن تسقط صورة البطل
الشعبي والأماكن الرمزيه لخصومك فما عليك الأ أن تشجعهم على حمل مزيد من الأحمال
وصولا لهلاكهما ، بالدعاية وتضخيم الصورة وتسليط الأضواء في أغلب الأحيان ، مما
يخلق هذه النشوة والسباق المحموم في العقل الجمعي العربي عموما والفلسطيني خصوصا ،
نحو ما يريدوه هم ، وبقراراتنا الذاتية وإرادتنا الحرة .
إن من أهم
أسباب فشل ظواهر إستنساخ التجارب الكفاحيه للشعب الفلسطيني هو أن لكل حالة أو
ظاهرة ناجحه مقومات أساسية أوصلت لهذا النجاح ، وهما فكر قيادي ووعي بالزمان
والمكان ، والمتداخلين في الصراع في تلك اللحظه التاريخية ، فلا يمكن إستنساخ ظاهرة
ياسر عرفات بكل ما له وعليه ، كما أنه من المتعذر إعادة تدوير الزمان والمكان
الذين أحاطا بهذه الظاهرة ، والتي باتت في حينها بكل إرهاصاتها موضع البحث في
مراكز دراسات الغزاة لإستخلاص العبر منها ، ووضع الحلول لها ولمثيلاتها ، في
مواجهة جهل مطبق على الناحية الأخرى من الصراع ، فلا بحث ولا مراجعة ولا إستخلاص للعبر
، والنتيجه الحتمية هي الفشل بكل تأكيد ، فلم يعد الفكر القائل به ياسر عرفات بإن
بنادقنا ليست للإيجار ، وأن البندقية الغير مسيسة هي قاطعة طريق ، وأن القرار
الوطني المستقل هو السياج الحامي لنا ، وحرمة الوقوع في الدم الفلسطيني ، فجميعها
لم تعد هي الفكر السائد ، فقد إستبدلت بمفاهيم جديده أساسها الإنخراط في المحاور
بكل تشابكاتها والقفز من مركب غارق الى آخر على وشك الغرق ، ومن زمن المواجهة
بالخيارات الوطنية والقومية الى زمن الخيارات الإسلاموية تحت مظلة الإنجلوسكسونية
المهيمنه ، وزمن الغاية تبرر الوسيلة ، فلا حرمة فيه لا للدم ولا لصلة القربى ولا
للرمزيات الوطنية ، فبات كلها مستباحه .
ماذا يعني الإصرار
على تكديس السلاح حصرا في مخيمات اللجوء ، فبلغة العلم والمنطق هي دعوة لتركيز الجهد
المعادي في أماكن بعينها دون غيرها ، أما بلغة فكر المحاور فهو يعني تشكيل ظواهر
ومجاميع مسلحه وجزر خارج السيطرة على الحالة الوطنية العامة ، والتي بات العدو قبل
الصديق يعرف تماما بإنها عديمة الجدوى كفاحيا ، ولكن لتشجيعها وتكريسها بما يخدم
المشروع المعادي الأكبر ، فلا بأس بالدخول اليومي وقتل بالجملة وتجريف الطرق والبنية
التحتية في حالة تسخين يومي لإختلاق الفعل لتبرير رد الفعل ، من لا زال يصدق بعد
كل هذا الدمار الحاصل في قطاع غزة وتسوية مخيم جباليا بالأرض ، بأن حكومة الأساطير
لبنيامين نتياهو وجيشه قد يتورع عن تسوية مخيم جنين مع بقية المخيمات في الضفة
الغربية بالأرض وتهجير أهلها أيضا ومعها
أجزاء واسعة من الضفه الغربية .
قد يقول
قائل إذا فهي الدعوة لرفع الراية البيضاء والإستسلام للمشروع المعادي ، وللإجابة
على أصحاب مثل هذه الدعاوي ، فلا بد من مراجعة أوسع للتجربة الفلسطينية ، وأسس هذه
المراجعة يجب أن تنطلق من منطق العلم وليس وفق منطق الغيبيات والكلام المرسل على
عواهنه ، ولتبسيط الأمر على القارئ وعدم إقحامه في جدل فلسفي عميق فلنجري عملية
مقارنة بالوقائع على الأرض التي شاهدها كل مواطن فلسطيني ، متعلم وغير متعلم ، مثقف
وغير مثقف في الداخل أو الخارج وطبيعة الأحوال لقطاع غزة بحكم أنها التجربة
الكفاحية الأساسية الأشد دموية وتركيز ، وإرتداداتها على مجمل الوضع الفلسطيني في
الداخل والخارج ، عشية الطوفان ، وما بعد
الطوفان ليتم النقاش على أساسهما بكل موضوعيه ومصداقيه وشفافية .
إن المتتبع
لمسار العمليات العسكرية في قطاع غزة عموما وشمالها على نحو خاص ، يدفعك للتساؤل
عن مغزى فكرة تكديس الحالة المقاومة في منطقة مخيم جباليا ومحيطها ، مما أدى الى
هذا الدمار الغير مسبوق فيهما والاف الضحايا المدنيين والعسكريين على حد سواء ،
وأن عديد المبررات التي سيقت بهذا الخصوص من قبل المحللين العسكرين المواليين
المدافعين عن هذا التكديس ، من قبيل توفر البنى التحتيه للمقاومه ، والخزان البشري
للمقاومين وحاضنتهم الأقوى ، والطبيعة العمرانية المكتظه ، تصطدم بمنطق العلم
العسكري مباشرة ، والقائل بضرورة الإنتشار وبعثرة الجهد العسكري المعادي المركز حيال
منطقة ما ، فالفروق الجوهرية في القوى بين ما تمتلكه ويمتلكه عدوك لا مجال
لمقارنته ، وأن الأثمان التي ستدفع حيال هذا التكدس ، ستكون باهظة الثمن على
المقاومة وحاضنتها الشعبية والمواطنين العاديين في مراكز الإيواء ، الا أن منطق
الأشياء يقول بإن المقاومة هناك ، قد وقعت في فخ ما يسمى بخطة الجنرالات ، والتي
سربتها الصحافه العبرية عن سبق إصرار وترصد ، والسؤال الأهم منذ متى كانت الخطط
العسكرية تنشرها صفحات الصحافة العبرية سوى بعد تنفيذها وخروجها الى حيز التنفيذ ؟
إلا إذا كان من خلف نشرها أهداف بعيدة المدى ، وقد تبين أن من بين الأهداف الأهم
لها هو خلق حالة التكدس الحاصله في هذه المنطقه ، بدعوى مواجهة خطة الجنرالات
والقاضيه بفصل شمال مدينة غزة عن جنوبها ، وهو ما توقعه مروجو هذه الخطه وهو ما
حدث بالفعل ، وتم وإبادة الحجر والبشر في هذه البقعه الجغرافية حتى باتت غير قابله
للحياة الآدميه ، وعمليا تم فصل شمال مدينة غزة عن جنوبها ، وتشرد الناس التي دفعتهم المقاومة للبقاء في
هذه المناطق في ظروف لا يصدقها العقل البشري .
قد تفهم
الأخطاء العسكرية للمقاومة في مخيم جباليا في ذروة المعركة وإحتدام الصراع ، ولكن
كيف لك أن تفهم التكدس الحاصل للمسلحين
بشكل علني في مخيم جنين ، فقد دخلت قوات الإحتلال لهذا المخيم وحاصرته عشرات
المرات منذ طوفان حماس على أقل تقدير ، وكانت في كل مرة تخرج بمعدل ثلاثة ضحايا
على الأقل ، وتدمر البنى التحتية ، وتشرد ساكنيه من الشيوخ والنساء والأطفال لأيام
لخارجه ، وتعيد ذات المسلسل بذات الخسائر البشرية والمادية ، وهنا برزت عدة
تساءلات حول هذه المشهدية ، هل عشرات المسلحين الموجودين في هذا المخيم قادرين على
الدفاع عنه ، ومنع الإحتلال من دخوله في ظل الإمكانيات المتوفرة لديهم ، والتي لا
تقارن بما يمتلكه الطرف الإسرائيلي ؟ والإجابة المنطقية بلا ، والسؤال الآخر هل لا
زالت تؤمن هذه المجاميع المسلحه بعد كل المتغيرات الجارية في المنطقه والمحور الذي
أنخرطت به والتصدعات العميقه التي أصابته لا زالت قادرة على البقاء وحيده في
مواجهة الة الموت الإسرائيليه ؟ والإجابة المنطيقه ايضا بلا ، إذن والحالة هذه لا
بد من فهم الفكرة التي تنطلق منها هذه المجاميع المسلحه ، والتي باتت قيد التداول
في العديد من الأوساط التي تتابع الشأن الفلسطيني وقوامها " أن هذه المجاميع
ومشغليهم يعرفون يقينا هذه الإجابات على الأسئلة المثارة ، ولكن هذه المجاميع باتت
هي الورقة الأخيرة في يد شظايا محور تعرض لكل هذا الدمار ، والتي لن تسهم بدفع قيادات هذه المجاميع لتفكيك الحالة لأن
ذلك يعني في نهاية الأمر تفكيك آخر ما تبقى من أوراق قوة لا زالت تعتقد أنها تمتلكها ، والتي هي في حقيقة
الأمر باتت نقطة ضعف قاتله للحالة السياسية الفلسطينية الرسمية ، وكان لا بد من من
وقوع الصدام الحتمي بين من يحاول لملمة الحالة الفلسطينية بعد قراءة متأنية بل
متأخرة للواقع الذي تشكل في أعقاب 15 شهرا من حرب مدمرة ومتغيرات هائله من جهة ، ومن
جهة أخرى بين من لا زال يعتقد أنه يمتلك ورقة قوة بين يديه ولا يريد التفريط بها
على أمل حدوث متغير قد يهبط من السماء ، ليعيد تشكيل الحالة مجددا ، ولو كانت
المراهنه ليس على أكثر من سراب ، يبقيها حاضرة في المشهد السياسي الفلسطيني ،ولو
كان ثمن كل ذلك هو دماء ومعاناة الفلسطيينين ، وأن من لا زال يعتقد حتى الآن بتفكك
الحالة في المخيمات الفلسطينيه ومخيم جنين بتسويات مجتمعية ومبادرات من هنا وهناك
فهو واهم ، فالتعارض في المشاريع هو وجودي ، إما أن تكون أو لا تكون ، والمستفيد
الوحيد من كل ما جرى وسيجري هو بالتأكيد الطرف الإسرائيلي .
خلاصة
القول :ـ
·
باتت المشهدية في الشرق الأوسط وفي صلبه القضية
الفلسطينية تتضح شيئا فشيئا ، فإنحسار المشروع الإيراني وتقلص نفوذه لا يختلف عليه
الا من لا زال يراهن على الأوهام ويرفض فكرة التسليم بهذه الحقيقة ، وأن الشكل
القادم للمنطقه هو رفض مطلق لوجود هذه الأذرع في دوائر صنع القرار الإسرائيلي
والغربي والعربي والفلسطيني الرسمي أيضا ، لما تسبب به من أضرار بالغة لمجمل هذه
الأطراف .
·
إن الرأي العام الفلسطيني بدأ بعملية إنفضاض طوعي من
تأييده لهذا المحور ، بعد كل ما شاهده رؤي العين ، فرغم كل التحذيرات السابقه قبل
وقوع كل هذه الكوارث لم تؤتي أكلها ، لكن الرأي العام الفلسطيني وكالعادة لا يستخلص
العبر الا كما يقولون بعد دفع أغلى الأثمان وهذه هي احدى معضلات الفكر الفلسطيني
والتي يتحمل مسؤوليتها مفكريه ومثقفيه أولا وأخيرا ، والذين آثروا الصمت أحيانا ، ومسك العصا من
وسطها أحيانا أخرى .
تعليقات
إرسال تعليق