"من يتناول العشاء مع الشيطان يجب أن تكون له ملعقة طويلة"
بعد خمشة
عشر شهرا على حرب الأساطير ، بات قطاع غزة وأهله بين المطرقة الإسرائيلية وسنديان
حكام الأمر الواقع فيه (حماس وتحالفاتها) ، حالة من التيه تشبه أهوال يوم القيامة
تنوء عن حملها الجبال ، قصص من الموت والمعاناة اليومية طالت تفاصيل تفوّق صانعيها
على الشيطان في إبتداعها ، كل يبحث عن رسم الصورة لنهاية قتال وفق تصورات ليست
موجوده الا في خيال المرضى بالأساطير المفصولين عن الواقع ، في عمق واقعيته مليوني
غزي فقدوا كل شيء يتصل بالحياة الآدمية ، يحتاجون لكل شيء ، ومستعدين للإستغناء عن
كل شيء ، الا شيء واحد ووحيد وهو توقف صوت زنانات الموت ، كيف ستتوقف لا يعرفون
الكثير عن ذلك ، ولا يريدون معرفة ذلك أيضا ، يريدون العودة لأحياءهم وهم يعرفون
أنها لم تعد موجوده ، يريدون العوده لبيوتهم وشوارعهم لمدارسهم وجامعاتهم
ومستشفياتهم ومصادر أرزاقهم ، وهم يعرفون أنها لم تعد موجودة ، يشتمون ويتهمون
ويلعنون كل شيء وأي شيء ذي صلة بواقعهم ومن لا صلة به أيضا ، حتى أنفسهم وإن إقتضى الأمر ذلك ، يعرفون بإن
أمامهم رحلة الف ميل وميل ، ولا يجدون حتى الآن السبيل للخطوة الأولى نحوها .
يقف طرفي
الصراع الأساس المرعوبون من كلمة اليوم التالي للحرب ، وأمام ناظريهم هذا الواقع
ومعه مئة رهينه لا يعرف حتى من يحتجزهم وصف أحوالهم بدقة ، هذه الحقيقة الوحيده
وكيف السبيل للتصرف بهذه المعادلة من داخل الصندوق وخارجه ، فمن فتح هذا الفصل من
الصراع من حكام الأمر الواقع في غزة ، بشعارات كبيرة بالتحرير والقدس ومنبر صلاح
الدين وتبييض السجون وطوق النار حول الكيان الأوهن من بيت العنكبوت ، الى شظايا
مقاومة متناثرة وحطام بشري ومادي يغطي مساحة 360 كم2 ، واستماتة في البقاء في
الحكم ولو على كثبان الركام ، بلجنة إسناد مجتمعي مع إحتلال مخفف تختبئ خلفها ،أو
لجنة عربية إسلامية مع إحتلال خارج المناطق المكتظه بالآدميين ، أو شيئ يشبه هذه
أو تلك ،الا السلطه الوطنية الفلسطينية والحكومة التي يعترف بها العالم ، فهي
الموت الذي لا تستطيع العيش به أو معه ،لأنها بإختصار نهاية مشروع الأوهام ...وعلى
الجهة الأخرى فمن شعارات لتغيير وجه الشرق الأوسط والقضاء على حكم حماس المدني
والعسكري الى الجري في المكان لمطاردة شظايا من مقاومة وصاروخ من بقايا حرب
الأساطير وعبوة ساقطة من السماء لم تنفجر والبحث عن الصورة المفقوده من نصر مزعوم
للتتويجه بإحتلال عسكري أو إدارة مدنية بمساعدة بعض العائلات أو حكم لمخاتير لا
زالو يحملون أختام أو رميها بكل ما فيها في حضن العرب والمسلمين ، او حتى التسليم
ببقاء شظايا حكم حماس ، وتحمل خسائر بشرية ومادية كبيرة ، الا إعادة تسليمها للسلطة الوطنية الفلسطينية
والحكومة المعترف بها دوليا .
يا لها من
سخرية الأقدار فحين يختلف طرفي الصراع على كل شيء الا شيء واحد وهو تسليم مقاليد
الأمور للحكومة الفلسطينية فلا بد من إعادة النظر في مغزى هذا الإتفاق الضمني
والتوقف أمامه مطولا ، وكيف ينظر طرفي الصراع له لناحية رفض وجوده كبديل للوضع
القائم ... فلناحية حكام الأمر الواقع فهي تعني :ـ
·
أن سردية الإنقلاب قبل ثمانية عشر عاما كانت قائمة على
أساس فكري ونظري خاطئ تماما ، فالحكم بالغيبيات والشعوذة الدينيه والأساطير لا صلة
لها بالعمل السياسي والحكم ، وهو يصلح لحركة معارضة وتنظير على هامش الحياة
السياسية ، أو لجمعية خيرية ، وفي أحسن الأحوال مجمع إسلامي لمناكفة إصحاب مشروع
التحرر الوطني ، أما الحكم فله منطقه
الخاص به .
·
إن المقاومة والحكم لا يلتقيان فلا يمكن الجمع بينهما
بمطلق الأحوال ، وأن الإلتزامات السياسية والدولية التي شيدت السلطة الوطنية
بموجبهما لا يمكن التعامل معهما بمنطق نعم ولكن ولا بمنطق لا ولأن أيضا ، فهما
رزمة فإما أن تقبلهما كما هما وإما أن ترفضهما كما هما ، فلست اللاعب الوحيد في
المعادلة بل أضعف لاعبيها بكل تأكيد .
·
إنه الإقرار ضمنيا بالهزيمة في الحرب فهو يعني بخطأ ما
أقدم علية في السابع من أكتوبر ، وتحمله لكافة تبعات الحرب السياسية والإجتماعية
والأخلاقية ، وتحمله أيضا تبعات إطالة زمن الحرب وإختطاف الرهائن وبخاصة المدنيين
منهم وعلى وجه التحديد النساء والأطفال وكبار السن ، والذين باتوا سببا لعمليات
القتل والتدمير واسعة النطاق وليس وسيلة لحماية الشعب الفلسطيني والمقاومة أيضا .
·
إن الإنخراط بالمحاور والمراهنه على قدرات الآخرين ثبت
بالدم والموت والدمار أنها لعبة نهايتها المحتومة هي المشهدية الراهنه ، فكل
الأطراف المشاركة به تبحث لذاتها عن مساحة من بقاء ، عدا عمن تبخروا من المشهد
بكليته ، وإن المراهنة على القفز من مراكب محور غارق للرسو على شواطئ محور متقدم
باتت موصدة أمامه لحد الآن .
لكل هذه
الأسباب مجتمعة بات القرار الداخلي في حماس هو البحث عن حلول ترقيعية من قبيل
تشكيل لجان للإختباء خلفها وليس السلطه الوطنية الفلسطينية والحكومة الفلسطينية
التي لن تسلم بوجود كيانين وسلاحين وحكومتين واحده شكلية وأخرى حكومة ظل فعلية
تستقوى بالسلاح والسيطرة على المؤسسات .....أما بالنسبة لحكومة الأساطير في
إسرائيل فهي تعني :ـ
·
إن الإقرار بوجود السلطة الوطنية الفلسطينية ممثلة
بالحكومة الفلسطينية في غزة فهو يعني العودة الى أصل وجذور الصراع وهو يعني
الإتفاقيات الدولية وهو يعني حل الدولتين والذي بات وفق أفق حكومة الأساطير وما
تخطط له شيء من الماضي الذي ليست على إستعداد للتعامل معه بأي شكل من الأشكال .
·
أنه إقرار ضمني بفشل الحكومة الإسرائيلية بترجمة ما أحدثته
من دمار وقتل في غزة ، الى لغة سياسية تحقق برامجها السياسية بعيدة المدى ، والقاضية
بتصفية القضية الفلسطينية من جذورها وما تخطط له من تغيير وجه الشرق الأوسط ، وهي
إقرار بإنه إن كان أحد قد هزم في هذه الحرب فهي حماس وليس الشعب الفلسطيني وقضيته
وحقوقه التي أقرتها المواثيق الدولية ، وإن كان على أحد أن يدفع الثمن فهي حماس
ومشروعها وليس الشعب الفلسطيني بإي حال من الأحوال .
·
إنه إقرار بفشل السياسات الإسرائيلية التي إستخدمتها
الحكومة الإسرائيلية في أعقاب إنقلاب حماس عام 2007 على السلطة الوطنية الفلسطينية
بسياسات الإحتواء وضخ الأموال وبث الحياة بهذا الكيان بإعتباره مانعا طبيعيا لوحدة الجغرافيا الفلسطينية والنظام السياسي
الفلسطيني وإعفاءها من دفع الإستحقاقات السياسية أو حتى مجرد الخوض في أي نقاش
سياسي .
لكل هذه
الأسباب مجتمعه بات القرار الداخلي في إسرائيل هو البحث عن حلول ترقيعية من قبل
حكم عسكري وإدارة مدنية وحكم عشائر ، ولجان دولية .....الخ ويعي ذلك تماما قادة
الحكم والمعارضة وجنرالات الجيش الحاليين والسابقين في إسرائيل بإن كل ذلك لن يكتب
له النجاح وسيسقط في أول إختبار ، كما هو الحال بالنسبة لحماس أيضا بإن كل مراهناتها
لم تعد تأتي أكلها أيضا .....لأسباب
عدة من أبرزها ما هو آت :ـ
·
إن الحقيقة الواقعه الوحيده في كل معادلة الصراع هو وجود
الفلسطينيين على أرضهم وتشبثهم بها ، فصحيح أن ضيق أحوالهم ومعاناتهم قد يدفع
البعض منهم الى مغادرة أرضه بشكل مؤقت الا أن الصمود الذي أبداه غالبية الشعب الفلسطيني ومحاولة التكيف مع أصعب الظروف
أكد هذه الحقيقة التي لن تتزعزع أبدا .
·
إن الرأي العام الفلسطيني في قطاع غزة وبعد كل ما عاناه
قد بات في حالة من النضج السياسي أكثر مما يتخيل طرفي الصراع الراهن فهو بغالبيته
الساحقة يرفض العودة لحكم حماس من جديد وفي نفس الوقت لن يقبل الوجود الإسرائيلي
أو أي شكل من أشكال التدخل في شؤونه الداخلية أو فرض أي من المقترحات الإسرائيلية
عليه .
·
إن حجم المأساة الواقعه حاليا في غزة وحجم المتطلبات
الهائلة ليوميات الحياة فيها سيفوق قدرة أية جهة غير الحكومة الفلسطينية القيام به
بكل الأحوال فشظايا حكم حماس في غزة ليس بقادر عن فعل أي شيء وحكومة الإحتلال هي
في ذات الموقف بل أكثر سوء ، وإن الحلول المقترحة من هاذان الطرفان ، وهم العارفان
أكثر من غيرها بإنها لن تجدي نفعا ولن يكتب لها النجاح على إعتبار أنهما لا
يمتلكان شرعية القيام بهما بعد كل ما حدث .
خلاصة
القول :ـ
إن حرب
الأساطير الأخيرة في قطاع غزة وصراع مشاريع المحاور فيها يجب أن تقرأ فلسطينيا في
إطارها الأوسع ، بين إنكفاء مشروع بكل أذرعه وتحالفاته ، وتقدم مشروع آخر بكل
أذرعه وتحالفاته ، وما بين هذا وذاك فالحرب التي خيضت بإسمه وتحت يافطة قضيته لم
تكن له وبها ناقة ولا جمل ، ومن خاضوها بإسمه لا يمثلون الا إحدى أذراع مشروع
إنخرطوا فيه والذي إنكفأ للتو ، وحتى لا يترجم الى سياسة ودفع الفواتير فما علينا
الا الحفاظ على المسافة المناسبة من المشروع المنكفئ والمتقدم على حد سواء ، وكما قال
شكسبير في مسرحياته في القرون الوسطى "من يتناول العشاء مع الشيطان ، يجب أن
تكون له ملعقه طويلة " بمعنى إن كان ولا بد من مشاركة الشيطان في وجبة عشاء
فأحرص أن تبتعد لمسافة آمنه منه ، وهي تلخص مشهدية وسردية قادة حكام الأمر الواقع
في غزة ، والذين لم يمتلكوا لا ملعقه طويلة ولا قصيرة ولا ملعقه من الأصل ، بل
جلسوا في حضن الشيطان ليتناولوا عشاءهم من يد الشيطان ذاته وبملعقته أيضا ،
فتسمموا ولا زالو يحاولون تسميم شعبهم بمعيتهم .
تعليقات
إرسال تعليق