مراقصة الشيطان تتطلب معرفة
أغنيته المفضلة
أسدل الستار على الزيارة الأكثر إثارة للجدل للمنطقة
العربية من قبل دونالد ترامب ، موليا وجهه صوب العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي في
زيارة إستغرقت 72 ساعة ، منتشيا ومحملا ببعض مما يتمناه من هذه الزيارة من خزائن
أموال العرب ، في أكبر حملة جباية (استثمار) ومخيبا معها آمال عراض لشرائح واسعة في الشرق الأوسط والقصور السياسية التي بنوا عليهم أحلامهم ، كانت
ترتقي في غالبية الأحيان الى أوهام وتصورات غير واقعية ، بإن تكون هذه الزيارة بمثابة
بارقة أمل تؤسس لمعالجة ملفات هذه المنطقة واستقرارها ، إبتداءا بمن يتضورون قتلا
وعطشا وجوعا ومرضا في قطاع غزة وعنوانا لقضية عمرها قرن من الزمن ، أو لتأسيس حل
لقضية الملف النووي الإيراني والصداع المزمن لإسرائيل ولدول الخليج ، وقد ذهب
البعض الى أبعد بكثير من ذلك في أحيان أخرى ، كأن تكون مسمارا في نعش تفكيك عرى
العلاقات الأمريكيه الإسرائيلية ، لكنها كانت في الحقيقة ومن الأساس مخصصة لأن
تكون أكبر حملة لجباية للأموال (استثمار) قام بها دونالد ترامب من الدول الأكثر
ثراءا في هذه المنطقة ، مصحوبة بحملة دعائية مضللة تم إستنفار كبرى وسائل الإعلام
الغربية والعربية على حد سواء ، تواطئة معها حكومة الأساطير ورئيسها بنيامين
نتياهو الا من أحد المغفلين من أركان حكومته الذين لا يشاركهم بنيامين نتياهو
خفايا وأسرار إتصالاته ، سباق محموم بين ثلاث دول خليجيجية للسباق على رفع سقف
الأرقام والعقود الإستثمارية والهدايا ، يقدر خبراء الإقتصاد بإنها بلغت ثلاثة
فارزة سبعة على عشرة من التريليونات ، ضجت وسائط التواصل الإجتماعي ووسائل الإعلام
المقروءة والمرئية والمسموعة بهذه الأرقام الفلكية ، وحتى لا نكون كغيرنا مع أو ضد
، فيجب أن يرتكز النقاش على مبدأ أساسي هل بات الخليجيين يعرفون الأغنية المفضلة
لمراقصة دونالد ترامب على أنغامها .
لفهم السياسات التي سيعتمدها دونالد ترامب في الأربعة
سنوات القادمة فستقوم على فصل الملفات والتطبيق النصي لمبدأ الصفقات ، فلكل دولة
سياساتها الخاصة ومعاييرها المختلفة ، فمبدأ التعامل بالرزم مع الملفات باتت من
الماضي ، فقد أسس في أولى جولاته الخارجية لهذا المبدأ ، فما يناسب السعودية ، لا
يناسب قطر وما يناسب قطر ، لا يناسب الإمارات العربية المتحدة وما يناسب الإمارات العربية المتحده لا يناسب
الأخريات ، ومن الآن فصاعدا فالسياسة والإقتصاد ستأخذ هذا المنحى ، وقد بدأها أصلا
بالإقتصاد ومن العاصمة واشنطن حيث أفرد لكل دولة معاملاتها الضريبية الخاصة
وتسعيرته وفق ما ستفضي اليه مفاوضات الصفقه معها ، فلن يتم التعامل مع الإتحاد
الأوروبي كتكتل سياسي إقتصادي موحد ، ولن يتم التعامل مع حلف شمال الأطلسي كتكتل
عسكري موحد ، ولن يتم التعامل مع الصين من منطلق أنها أحد مكونات تجمع بريكس
وتحالفاتها الإستراتيجية مع روسيا والآخرين ، إن منطقه بسيط ويقوم على أنه لم يعد
بمقدور الولايات المتحدة من قدرة على التعامل مع هذه التكتلات بشكل موحد وبالتالي توحيد
التعرفة السياسية والإقتصادية لها مجتمعه ، لأن ما ستدفعه الولايات المتحدة من
أثمان وكلف سيكون باهظ للغاية ، فالإنفراد بكل منها بسياسات محدده وفق ما تفضي
اليه مفاوضات الصفقه ، سيكون هو الفيصل النهائي في كل ما يتصل بها ، وعلى جميع
التكتلات الدولية ومنها العربية أن تكون مستعدة من الآن فصاعدا لذلك .
حضر الإقتصاد وغابت السياسة في زيارته الأخيره لسبب بسيط
، لأن هذه الدول الثلاث من الأساس قبلت بمبدأ وتعريف دونالد ترامب للصفقه ،
فالوفرة المالية حاضرة في كل منهما الا أن الإهتمامات الإقتصادية مختلفه تماما ،
فهي محلية بحتة فلا مشاريع إقتصادية كبرى خليجية الا على الورق وفي أروقة مجلس
التعاون الخليجي ، فالصحة والتعليم والأمن والطاقة النظيفة والبرامج النووية
السلمية والكهرباء وتحلية المياه ....الخ لم ترقى جميعها على بساطتها لأن تكون
مشاريع إقليمية تعود بالنفع على الجميع ، فإذا كان هذا هو حال الإقتصاد مع كل ما
يتوفر من وفرة مالية فكيف سيكون عليه الحال مع شح أوراق الضغط في الملفات السياسية
، فلم يسمع دونالد ترامب بالقطع رؤية خليجية موحده إتجاه الحلول الممكنه لقضايا
المنطقة ، فغزة ومستقبلها ومعها القضية الفلسطينية باتت لها رؤى مختلفه ، وكذا
الملف النووي الإيراني ، فالملف اليمني والسوداني ....الخ ، والحالة الوحيدة التي
حدث فيها إختراق سياسي ناجح هي الملف السوري ، فالموقف الموحد من النظام الجديد
الحاكم في سوريا من الدول الخليجية مجتمعة هو في هذا الملف ، وقد عززه الدعم
التركي والقبول الإسرائيلي على عكس ما يشاع في الأوساط الإعلامية ، فقد قدم أحمد
الشرع أكثر من إشارة تطمين للإسرائيليين وليس بأخرها إعتقال طلال ناجي الأمين
العام للقيادة العامة للوصول الى رفات جندي قتل في لبنان عام 1982 والتحقيق معه
بتهمة معرفته بخفايا هذا الملف من قبل حكام سوريا الجدد ، وليس هذا فحسب
فالمعلومات المتداولة تشير الى جهود إقليمية تركيه قطرية بهذا الشأن أفضت الى هذه
النتيجة وأخرى مماثلة بتسليمهم مقتنيات الجاسوس الأسرائيلي أيلي كوهين .
لم يجهز المسرح السياسي في الشرق الأوسط بعد لأي
إختراقات سياسية ، فبنيامين نتياهو لم يحسم بعد أي من حروبه في الشرق الأوسط لتوضع
على الطاولة أمام دونالد ترامب تمكنه من عقد صفقات لصالح القوة المهيمنه (اسرائيل)
، فإسرائيل غارقة في حربها على الفلسطينيين ، وحربها في لبنان لم تتضح معالمها بعد
، وسوريا الجديدة وحكام الإسلام السياسي فيها لن يضعهم بنيامين نتياهو في عبه بعد
تجربته مع حماس في غزة وعلى الرغم من كل التطمينات والضمانات العربيه والإقليمية ،
فالحوثيين في اليمن والذين باتوا قادرين على تعطيل الحياة في اسرائيل لساعات يوميا
إن أرادوا ، وحتى العراق ففيها من القوى
الكامنه ما سيشعره بالقلق الدائم ، أما رأس هلال الركام والصدأ (ايران) ورغم كل ما
حدث من تهشيم لنفوذها فهي تبدي مقاومة شديدة للحفاظ على الحد الأدنى من شعاراتها
القديمة وملف التخصيب النووي ، وحتى الأردن ومصر والذي تربطه بهم علاقات سلام فليستا
بأي حال من الأحوال في وضع يمكن بنيامين نتياهو أن يقول بإنه حيدهما بأي شكل من
الأشكال ، أما الجبهة الداخلية في اسرائيل فلم تكن بمثل هذا السوء بمطلق الأحوال ،
فحتى مجرد زيارتها من قبل دونالد ترامب والتي تتطلب تقديم أي من وعوده الإنتخابية
لها فلم تعد تقوى على ترجمتها على الأرض ، بإختصار فقد عادت هذه الدولة مطالبة
بالإجابة على السؤال الوجودي الذي طرحه مؤسسوها على أنفسهم قبل سبعة وسبعون عاما ،
كيف يمكن العيش في منطقة معادية بكليتها لوجودها أصلا ، فما سيكون عليه الحال بعد
أن باتت بعد أقل من ثمانية عقود من تأسيسها دولة في داخلها ثلاث دويلات واحدة
للعلمانيين وأخرى للمتديننين وثالثة للمستوطنين .
توافق دونالد ترامب على كل الأحوال مع بنيامين نتياهو
بإن يترك كل منهما للآخر مسرحه الخاص ، فتفكيك الملفات لدى دونالد ترامب ومنطق
الصفقات الإقتصادية يتناقض كليا مع منطق أعادة تشكيلها وترابطها وفق منطق القوة
العسكرية المهيمنه لبنيامين نتياهو ، ولم تعد تكفي لها مدة ولاية واحدة مكونه من
أربعة سنوات ، وأن تريث دونالد ترامب في إنتظار بنيامين نتياهو سوف يغرقه معه
ويورطه في حروب لا طائلة منها ، إذا فالإفتراق السياسي قد أملته الظروف الموضوعية
وقد قبل كل منهما بشروط اللعبة شريطة وأن كانا يبحران بإتجاهان مختلفان بأن يحطا
في نهاية الأمر على شاطئ واحد ووحيد وهو الإبقاء على القوة المهيمنه في الشرق
الأوسط على حالها ، فالتطبيع مع السعودية تم تأجيله فلا السعودية جاهزة له ولا
إسرائيل أيضا ، إذن فلم ينتظر دونالد ترامب مخلفا كل هذه الأموال بإنتظار الضربة
القاضية التي يبحث عنها بنيامين نتياهو والتي قد تأتي ولا تأتي ، فلماذا يمكن أن يذهب ولي العهد السعودي
للتطبيع مع شخص متهم دوليا بجرائم حرب وداخليا بالفساد وغارق في حروب لا تنتهي ، وماذا
ستضيف له العلاقة مع بنيامين نتياهو من الأصل وقس على ذلك بالنسبة للملف الإيراني ،
فدونالد ترامب أكثر من يعرف بإن منطق الصفقات الإقتصادية بحاجة الى مناخات سياسية
هادئة ومستقرة وهي بهذه الحالة غير متوفرة في هذه المنطقة من العالم .
كانت الزيارة الأكثر إزدحاما بالصور ، إبتداءا على
السباق على تنظيم الإستقبال الأكثر مهابة وبذخا ، وهو ليس بمستغرب على الإطلاق فهي
عادات عربية متأصلة في هذا الجزء من العالم ، وحتى أنها ممارسات على مستوى السلوك
الفردي من الأشخاص في سلوكيات تمارس يوميا ، لكن ما تضج به وسائط التواصل
الإجتماعي بأن قادة هذه الدول سمعوا بالصوت والصورة رأي دونالد ترامب بهم لعشرات
المرات ، ومفادها بشكل مختصر أنهم يمتلكون أموالا فائضه عن حاجتهم لها ، ضعفاء
وبحاجة دائمة الى الحماية الأمريكيه ، وأن ما يدفعوه هو حق أصيل للولايات المتحدة
الأمريكية لا يجب أن يخضع لأية مفاوضات ، وهم يعلمون أكثر من غيرهم بإنهم عندما
بحثوا عن المساعدة الحقيقية في الحماية في ولايته الأولى من صواريخ الحوثيين ، قام
بسحب منظومات الدفاعات الجوية باتريوت من المملكة العربية السعودية ، إذا والحالة
هذه وما لم يجد له المواطن العربي جوابا ، فما هي الحكمة أو المنطق وفق ما تقدم من
معطيات بكل هذه الصفقات ، ولكن الأغرب من كل ذلك بإنه وكلما يثار مثل هذا التحليل
، ينبري كتاب الأعمدة الخليجية والمدافعين عن هذه السياسات ، الى هجوم على
منتقديها ، تارة بدعوى أنهم أحرار بأموالهم وينفقونها كيفما شاؤا ، وتارة بتوزيع التهم
بالحسد والجشع على منتقديهم وأن أعينهم فقط على أموالهم وليسوا حريصين على إسداء
النصح لهم ، ولكن الشيء بالشيء يذكر ، فإذا كان الخليجيين وقادتهم والمدافعين عن
منطق قادة الخليج مقتنعين بما يفعلوه ولهم مبرراتهم في ذلك ، فهم بكل تأكيد فشلوا
في تقديم ما يلزم من شروحات للأمة بأهمية ما يقومون به من خطوات ، هل كانت لمدارات
سفاهة دونالد ترامب وسلاطة لسانه ، أم لمنعه من الإنجراف نحو خصومهم في هذه
المنطقة ، أم هي بالفعل نفقات ضرورية لتنمية بلادهم وقدراتهم في الدفاع عن أنفسهم
.
خلاصة القول :ـ
فلندع خلفنا كل الصور التي إزدحمت بها زيارة دونالد
ترامب للخليج العربي ، فمن يحاول أخذنا الى الرخام الأبيض ومهابة الإستقبالات
والهدايا التي قدمت للزائر فوق العادة ، فهو لا يريد لك أن ترى ما خلف المشهد
بكليته ، والحقيقة أن دونالد ترامب وبنيامين نتياهو أدارا مسرحية الإفتراق السياسي
بحنكة وإقتدار منقطع النظير ، فبينما كان
دونالد ترامب يوقع إتفاقيات الأرقام الفلكية وحملة الجباية ويوزع شهادات العظمة
والأهمية ، كان بنيامين نتياهو يرفع فاتورة الدم والموت والجوع والعطش في غزة
وبصمت مطبق ، غابت السياسة وحضر الإقتصاد ، فلا يستقيم الإقتصاد مع الضجيج والجلبة
السياسيه بالمطلق ، فرائحة العطور والورود والموسيقى واللوحات التراثيه والفلكلور
الشعبي للعراضة والعيالة والنعاشات وصالونات الصفقات الكبرى ، لا تستوى ورائحة
البارود والموت والجوع والعطش والمياه الأسنة ، إذا هو إفتراق لفصل الملفات
والإبحار بإتجاهات مختلفة ، فلا تبعات سياسية لكل الأموال والإستثمارات ، فلا
يريدون لك أن تفكر بإن الطائرة التي تقصف في غزة وحمولتها ووقودها وأجور الطيارين
العاملين على متنها وقرار إقلاعها وهبوطها هي أمريكية ، عليك أن تقتنع أن دونالد
ترامب شيء وبنيامين نتياهو الخارج عن عصا الطاعة شيء آخر ، فمن يصدق هذا الهراء
فعليه أن يصدق كل الهراء الذي سيلي ذلك ، فحرية غزة اتيه بعد معانتها مع العنف
ولسنوات ، لا يقل لك كيف ومتى وعليك أن تبحر بخيالك كيفما شئت .
أما الصورة التي
تساوي الف كلمة وكلمة وبلا منازع ، فهي الصورة الصماء التي جمعت الرئيس السوري مع
دونالد ترامب وولي العهد السعودي برئيس سوريا الجديده أحمد الشرع ، وعليك أن تمسح من ذاكرتك بإنه
كان يوما يكنى ابو محمد الجولاني أمير جبهة النصرة ، عليك أن تصدق فقط أنه هو من
أسقط نظام الطاغية بشار الأسد ، فلم البحث لمعرفة الحقيقة وتصديع رؤوس الناس بما
لا ينفعهم ولا يغير في الأمر شيئا ، فبعد عشرون عاما ستفرج لك أحدى الوكالات
الفدرالية الأمريكية عما قيل في هذا الإجتماع ، وماذا طلب من أحمد الشرع ووافق
عليه تماما وبضمان شخصي من ولي العهد السعودي مقابل رفع الحصار عن سوريا ، بل وحتى
القصة الكاملة للعظمة الأمريكية على شكل فيلم هوليودي في إيصال رجل من زنزانة
السجن في عاصمة العباسيين الى قصر الرئاسة في عاصمة الأمويين .
تعليقات
إرسال تعليق