طاهي
السموم يتجرعه ولا يكاد ....
تستغرب بل تستهجن من الجلبة التي تثار
على وسائط التواصل الإجتماعي ، عقب كل تصريح يصدر عن أحد مسؤولي حركة حماس ، والتي
باتت تأخذ منحيات حادة مبتعدة عن المزاج العام للشعب الفلسطيني وبخاصة في أوساط
سكان قطاع غزة ، مع تقدم أيام الحرب وعمق الأزمة الإنسانية الى مستويات غير مسبوقة
، كان آخرها تصريحات القيادي في هذا التنظيم أسامة حمدان بالقول "نحن إنتصرنا
ولن نقدم أية تنازلات"، فينبرون للسباب والشتائم عليه ، لتتسائل عما إذا كان
كل هؤلاء الناس لا زالوا وبعد مضى كل هذا السنوات وكل هذه الحروب وكل هذا الدمار ،
لا يعرفون من هي حركة حماس ومن هو أسامة حمدان وماذا يمثل بعد ، على ما يبدو فإنهم
كانوا ينتظرون أن يقف وقفة مسؤولة ليقول الحقيقة ويصارح الناس بحقيقة الموقف على
الأرض ، ليس من حق أحد أن يتوقع أفضل من هذه الأقوال ، لأنه وبإختصار فهو لا يرى
بمليونين ونصف فلسطيني في قطاع غزة ، أكثر من سدنة يقفون على باب معبد حماس ، لا
يتوقفون عن تمجيدها صباحا ومساءا حتى قيام الساعه ، لعلهم يوفونها جزءا من حقها
عليهم ، لقد أرسلتهم وأبناءهم الى جنان عرضها السماوات والأرض ، لقد أسكنوهم هناك بيوتا
أفضل من بيوتهم في مخيمات اللجوء ، لقد رووا ظماءهم بشربة ماء لا يعطشون بعدها
أبدا ، لقد جعلوا من لحم أطفالهم تروسا لجنازير الدبابات ، لقد أطعموا لحوم موتاهم
للجوارح والمفترسات ، ومن يفكر في التلعثم عند الحديث عن حركة ربانية بعد كل ذلك فهو
ملعون الى يوم الدين ، إن تعريف الإنتصارات لديه هي ثقافة الموت الجماعي كأصحاب
الأخدود، الم تستمعوا الى تعريفه للخسائر على أنها من يسقط من المجاهدين أولا ،
أما ما عدا ذلك فهي حسب أقوال خالد مشعل مجرد خسائر تكتيكية ، إنظر لحديث أبنه الذي لم يتجاوز الثلاثين عاما من
على بعد مئات الكيلومترات من غزة والذي فوض نفسه نيابة عن اثنان مليون ونصف
فلسطيني ، " ليس لدينا في غزة رايات بيضاء لنرفعها بل أكفان نكفن بها أبناءنا
" ، لا نعتقد أن أحدا لم يسمع محمود الزهار حين قال إن القضية الفلسطينية
ليست أكثر من عود سواك في بحر قضايا المسلمين ، إذن وفي حالة كهذه وبكل هذا الوضوح
فمن يكون المخطئ هم أم أنتم ؟؟ هو يخاطبكم بما قرره لكم وفق فهمه ونصوصه التي
إجتزئها من دينه الخاص الذي تعلمه في مدرسة سيد قطب ، وأنتم تتحدثون بلغة مختلفة
تماما عن دين الرحمة وحرمة النفس البشرية عند الله ، يتسائل أحد الناشطين الذي
وعلى ما يبدو أنه كان نائما لأكثر من ثمانية عشر عاما ، إن كان اسامة حمدان يعرف بإن مدينة رفح تسوى
بالأرض ويتم خلق حيز من الفراغ بين القطاع والحدود المصرية ، والجواب بإختصار الى
من لا زال يعتقد بإن اسامة حمدان لا يعرف شيئا عما يجري في غزة فنقول له لقد جانبت
الصواب ، إنه يعرف أكثر من أكثركم معرفة ، بل يعرف بإن المخطط الإسرائيلي هو إعادة
إحتلال غزة مجددا ، وتخفيض عدد السكان والأرض التي ينتفعون بها الى النصف ،
وتقسيمه الى مناطق تفصل بينها مناطق عازلة مسيطر عليها ، وإقتطاع أكثر من نصف
مساحة غزة لدواعي الأمن المزعوم ، فكل ذلك لا يعني له شيئا ، فليس له هناك بيتا
بناه بعرق جبينه وكفاحه لعشرات السنوات وقد بات الآن أثرا بعد عين ، ولم يدفن
أشلاء أبناءه بيديه ، ولم يذق الوان وصنوف الموت ، فعندما إشتدت المعركة في لبنان
وتبدلت قواعد اللعبة هناك غادره مع اسرته الى شمال افريقيا ، ولم يتريث لعل وعد السماء
يتحقق ويصعد الى السماء مع الصاعدين ، فإختار الأرض التي يتهم الغزيين الذين
يتشبثون بها بإنهم عملاء ، لمجرد مطالبتهم بوقف الحرب ليتمكنوا ولو من نصب خيمة على
ركام ما كان يسمى يوما بيتا في بيت لاهيا وجباليا .
لم تمطر علينا السماء قاعدة ولا داعش
ولا جبهات للنصرة والتحرير والفتوحات ، ولم تنبت الأرض عصائب للحق وجيوشا للمهدي وأخواتها ، نستسهل كل هذه الشرور والآفات بالقول
لقد تكونت في مختبرات الأعداء ، لندعي عدم القدرة على التفريق بين الإستخدام
والنشأة التاريخية ، أنها بإختصار يا سادة يا كرام وليدة فكر ديني ضل الطريق بعد
وفاة صاحب الرسالة السماوية أفضل الصلاة والسلام علية ، لقد خرج غالبية هؤلاء من
عباءة الإخوان المسلمين ، فأنتجوا بإختصار فكرا معوجا قابل لتصديق وقبول أي شيء ،
يعتقدون أنهم لا زالوا خير أمة أخرجت للناس وإبتلعوا منها كنتم ، يعتقدون بإنهم
يمتلكون الحقيقة الحصرية عن الكون ورب الكون وخالقه وخالق البشر أيضا ، إن لكل بداية
مقدمات ومنطلقات وركائز فكرية لكل ما جرى وسيجري ، فماذا ستتوقع ممن لا زال يؤمن
بإن ابو مصعب الزرقاوي قد حجز له مقعدا في الجنة والبابا فرنسيس في الدرك الأسفل
من النار ، وهو مستعد ليناصبك العداء ويطلب منك أن تستغفر الله على قول غير ذلك ،
فهو غير مستعد ليفهم أن الغيبيات التي يحشر انفه بها متروكة لخالق الناس فلم يعطي
علمه لأحد ، أما الأرض وقوانينها فالمفاضلة فيها لمن ينفع الناس ويقدم للبشرية
شيئا ينفعها ولا يؤذيها .
بدأت الطلائع الأولى لخريجي المجمع
الإسلامي من قطاع غزة بالتوافد للدراسة في الجامعات والمعاهد في الضفة الغربية مع
نهاية سبعينات ومطلع ثمانينات القرن الماضي ، ولمن يذكر تلك الفترة من التاريخ فقد
كانت أبرز سماتها الى جانب النشاط الطلابي المكثف هو دخول ثقافة الجنزير والماسورة
والعصي في صراع يكاد لا ينتهي مع الطلبة الذين يتبنون الفكر الوطني لمنظمة التحرير
الفلسطينية ، هذا الوحش الذي أطلق له الإحتلال العنان بالعمل في قطاع غزة في عام
1979 كانت أولى بواكير أعماله هو حرق معرض الكتاب الذي أقامه الهلال الأحمر
الفلسطيني في قطاع غزة والذي كان يترأسه حيدر عبد الشافي ، على الرغم من توفر شتى
أنواع الكتب فيه ، بما فيها الكتب الدينية والقرآن الكريم ، لم أكن من بين من
فاجأهم الإنقلاب الدموي في عام 2007 ورمي الناس من أعالي البنايات وإطلاق النار
على الأرجل وسحل الناس بالشوارع ، فقد سبق ورأيتها في جامعة النجاح حين تم القاء
الناس عن الجسور الرابطة بين الكليات ، ورأيت إحتجاز الفتيات لإقامة الحد عليهم
لعدم إرتداء الحجاب ، ورأيت الترويع في جامعة بير زيت وقذف الناس بالزجاجات
الفارغة والحجارة والأدوات الحادة .
كان الإحتكاك المباشر الأول لي بهذه
الظاهره في نهايات عام 1981 ،في إشتباك لفظي حاد مع أحد الكوادر الطلابية لما كان
يسمى بالكتله الإسلامية في معهد قلنديا ـ القدس ، مع شخص يدعى فتحي حماد من سكان
مخيم الشاطئ في قطاع غزة والذي كان يدرس في تخصص الرسم المعماري ، سيعرف بعد بأبرز
قيادات حماس في قطاع غزة ووزير داخليتها بعد وفاة سعيد صيام في حكومة حماس بعد
إنتخابات عام 2006 ، في جو ماطر استمعت الى أصوات قادمة من قسم آخر وحركة طلاب غير
اعتيادية تذهب مسرعة الى مصدر الصوت ، وصلت مع آخرين الى هناك واذا بجمهرة من
قرابة ثلاثين طالب تحاول الفصل بين ألمذكور وشخصين آخرين ، حاولت رفع صوتي واستخدام
صلاحيات ممنوحه لي في لوائح العمل الطلابي بحكم كوني عضوا في مجلس إتحاد الطلبة في
هذه المؤسسة في محاولة لفض هذه الجمهرة ، محاولا معرفة ما يجري وإذا بهذا الشخص
وبدون مقدمات ينسى من يتشاجر معهم ويوجه كلامه لي " انت لا تتدخل ، ما كان
لهؤلاء أن يفعلوا ما فعلوه لولا أنك تقوم بتحريضهم علينا ، فهم على شاكلتك ...الخ
من كلام التكفير ، في هذه الأثناء وما كاد أن ينهي آخر كلماته ، حتى وصل مسؤولان
من إدارة المعهد ليوجهون كلامهم لي ما الذي يجري هنا ، لم يكن بوسعي لا الرد عليه
ولا الرد على من يسألني لأنني بإختصار لا أعرف شيئا عما يحدث ... يبدأ الطلبة
بالتفرق ومن بينهم هذا الشخص الى غرف سكنهم الداخلي ، وتبدأ تلملم معلومات مع
إدارة المعهد ممن بقي متواجدا وإذا بكل القصة أن شابان يستحمون في حمامين ليسوا
متجاورين وبينهم حمام يستحم به هذا الشخص وقاموا بالمزاح مع بعضهم البعض برش الماء
البارد على بعضهم البعض وقد وصل اليه بعض القطرات منه ، وهنا كانت المفارقة الكبرى
، كيف لعقلية من هذا القبيل أن تصنع الحبكة والرواية ويوجه الخصومة لشخص آخر لم
يسبق أن تحدث معه مجرد حديث عادي ، وذلك لمجرد أنه يمثل شيء مختلف عنه !!! لقد
شكلت هذه الحادثه مفترق الطريق الأهم في حياتي ، بإنني لامست هذا الفكر الذي يحرك
هؤلاء البشر بعد أن شاهدتها عن بعد في الجامعات الأخرى ، مما رسخ قناعات مؤكدة لي
على الأقل وحتى قبل أن أكمل العشرين عاما ، بعدم إمكانية التعايش مع هذا الفكر في
حياة مشتركة مطلقا ، لتتوالى الحوادث وكلها ببالغ الأسف لا تدفعك الا الى مزيد من
التشبث بهذه القناعات .
لست من المختصين بعلم النفس ، الا أن
المشاهدات المكثفة لمآسي غزة في الحرب الجارية حتى الآن دفعتني وبكل صراحة للقراءة
المعمقة حول هذه الظواهر الخارجة من هناك ، ووقوف قيادات هذا التنظيم بكل هذا
الصلف وعدم الحساسية إتجاه كل هذه المعاناة للناس ، هل هي ظواهر تنم عن إعتقاد جازم بحقائق الدين بكل
تجلياته ، أم هي ظواهر عن إختلالات نفسية تقتضي سبر أغوارها بالمنطق والعلم تسترعي
النقاش ودق ناقوس خطر داهم حولها على إعتبار أنها ليست حالات فردية معزولة بينها
إمتداد زمني ، عائلات تشطب من السجلات المدنية ، أشلاء توزن بالميزان ، جثث تنهشها
المفترسات ، إستحضار وقائع تاريخية من الاف السنين عن أصحاب الأخدود ، ماشطة فرعون
، والاف القصص ومحاولة التماثل معها ، فليس من الممكن أن تمر عنها مرور عابرا لا
يستدعي التوقف أمامها وسبر أغوارها ، والنتيجة التي باتت مؤكدة لي على الأقل ،
أنها إختلالات نفسية مردها إنحراف عميق مزمن من التعايش مع فكر ديني منحرف لا يقيم
وزنا لحياة الإنسان ولا مقدراته أيضا .
خلاصة القول :ـ
إنها الجغرافيا ومنحها ولعناتها فقد
كانت غزة إمتدادا طبيعيا للمجتمع المصري بكل ما فيه إيجابا وسلبا ، فقد تسربت اليه
كل الرياح العاتية الذي تعرض له هذا البلد حيث كان هذا الإقليم الأشد تأثرا بها ،
ومن أخطرها فقد باتت غزة مسرحا لكل هذه الأفكار الدينية ، فإبتداءا بحركة الإخوان
المسلمين ومرورا بحركة الجهاد فالتبليغ والدعوة الى السلفية الجهادية ، وبحكم واقع
الإحتلال وبطشه فقد كان النصيب الأوفر للأشد تطرفا منها ، فقد ترعرعت وإزدهرت حتى
باتت حالة مسيطرة على الشارع ، فلا تستغرب أن كانت حتى الحركات اليسارية والوطنية
قد تأثر كوادرها بهذه اللمسات الفكرية لهذه الحركات للتماهي مع المزاج العام
السائد في الشارع ، وهكذا يوما إثر يوم فقد أدرك المحتلون أهمية هذا العامل وضرورة
إستخدامة وتوجيهه لتعميق التناقضات الثانوية داخل هذه البيئة ورفع مستواها لمستوى
أعلى من التناقض ، حتى وصل في الكثير من الحالات الى مصاف التناقض الرئيسي ،
ولكنهم أغفلوا أحد أهم سنن الكون وعدالة السماء ، بإن طهاة السموم سوف يتجرعوها
يوما ما ، وهو ما كان ، فلم تسلم الولايات المتحده من إستخدامها للقاعدة ولم تسلم
روسيا من إستخدامها لهم في الشيشان ولم تسلم بريطانيا ولا فرنسا ولا المانيا وعدد
ما شئت وصولا لإسرائيل فجميعهم نالوا من هذا الإستخدام لهذه الأفكار المريضه ، ولم
تكن مصر ببعيدة ومعها مجمل الدول العربية وآخرهم الأردن ، فكل من أعطاهم جرعة حياة
وأقحمهم في لعبة السياسة والأمن عقروه ، ولم يكن ياسر عرفات بأحسن حال ، فلم
يرحموه حين وثق بأكبر الشعارات تضليلا في التاريخ " شركاء في الدم شركاء في
القرار " فكافئوه بإن إنتهكوا حرمة منزله بعد موته وداسوا على صوره بنعالهم
هذا هو منطقهم فلن يخرجوا من جلدهم أبدا ، إنها مرضى بمتلازمة الصدمة الدينية والعنف
.
تعليقات
إرسال تعليق