عندما يبدأ الناس بالموت من كل شيء ويتسلل الشعور بالعجز
، فمن البديهي أن يتم إستحضار العبارة السحرية التي إنتجها البشر منذ قديم الزمان "شيءأفضل
من لا شيء" ، لتبدأ معها معركة الصراع
والتحايل على ترويض النفس على قبول التعود على الإنحدار السحيق بلا مكابح ، وتكسير
الحواجز النفسية والتابوهات المقدسة رويدا رويدا ، ففي ظل إنعدام الخيارات
والبدائل الممكنه المصطنع ، وطغيان الظلم والإستبداد والسادية كسيدات وسادة للمشهد
، بكل ما فيه من تفاصيل مروعة ، في إنتظار الأفضل الذي لم يكن يقبله البشر ، عليك
أن تقنع نفسك بإن ما هو دونه بكثير بات هو الأفضل الآن ، وهكذا يوما إثر يوم في
إنتظار الأفضل المتمنى ، فعندها نكون قد وصلنا الى مسرح البلادة وإختراع أسماء
ومسميات وهمية ، نستحضرها من المقدسات والمرويات وقصص الأولين وتعويذات المشعوذين
، نطوعها لتصبح صالحه وقابله للتساوق مع ما وصلنا اليه من أعلى درجات بلادتنا ، ومن
أهم سماته هو إنتشار التكاذب وقبوله والتعاطي معه ، والبقاء في حالة دوران في حلقه
جهنمية ، عنوانها المبيت على عذر سيء كاذب مخادع ، لتصحو على عذر أكثر سوءا وقبحا
، ولكنها في مطلق الأحوال يجب أن تكون ممهورة ومتبوعة بالعبارة السحريه الخالده ،
والتي تصلح لكل زمان ومكان ومقام ومقال ، وهي أفضل من لا شيء حتى لو كان عذرا أقبح
من ذنب .
بتاريخ 21مايو أطل علينا رئيس مجلس الوزراء ووزير
الخارجية القطري على هامش منتدى قطر للإقتصاد 2025 بالقول " لقد أقنعنا حماس
بإخلاء سبيل الرهينة عيدان الكسندر (مزدوج الجنسية) على أمل فتح نافذة في جدار
الإستعصاء لوقف حرب غزة ودخول المساعدات اليها" ، وقد ردت الحكومة
الإسرائيلية على هذه اللفتة بمزيد من التصعيد ، والسؤال الذي لا نعرف إن كان رئيس
وزراء قطر يمتلك له جوابا ، مع من إتفقت على هذه المقايضه ؟ وعلى ماذا بنيت توقعاتك ؟ فإن كان الجواب مع الأمريكيين وعليهم ، فأنت لست
ذي صلة بالشأن الديبلوماسي ، فدونالد ترامب متفق مع بنيامين نتياهو مسبقا بإن زيارته للخليج هي زيارة جمع أموال
وإستثمار وتصفير للحالة السياسة ، ثم إن كان هذا هو الحال فلم لا توجه الإنتقادات
للأمريكيين مباشرة ! أما إن كان المقصود بإن المقايضة قد كانت مع الإسرائيليين
ليردوا اللفتة الإنسانية بلفتة أفضل ، فقد صرحوا من البدء وقبل تنفيذ اللفتة بإنهم
لم يقدموا أية وعود في المقابل ، والصحيح أنها لفتة قدمت لدونالد ترامب شخصيا
بمناسبة زيارته لكم ، على أمل أن يقوم بالضغط على بنيامين نتياهو لإحداث أختراق في
مفاوضات الرهائن ، وعندما لم يحدث ذلك ووقعتم
بالمحظور، فقد جاء تصريحكم بمثابة إختراع للأعذار السيئة لمواجهة سيل الإنتقادات
التي وجهت لكم وبخاصة من الذين يتضورون جوعا في غزة .
تنقل وسائل الإعلام المتخصصه بالتسريبات عن دونالد ترامب
، بإنه ضاق ذرعا ببنيامين نتياهو ، وأنه طلب من اركان إدارته ، إبلاغ بنيامين
نتياهو بإن يوقف الحرب ، لتتناقله وسائل الإعلام العربية ، وتشبعه تحليلا بالأماني
والأوهام ، وكأن دونالد ترامب بحاجة لوسطاء بينه وبين بنيامين نتياهو ليبلغوه رأيه
، متناسين أن دونالد ترامب هو من أعطى بنيامين نتياهو هذا الهامش الواسع لفتح
الجحيم على قطاع غزة ، وهو نفسه دونالد ترامب من أعاد تصدير القنابل من الوزن
الثقيل ، أوليس هو من أطلق فكرة تهجير الفلسطينيين وريفيرا غزة ، ونبدأ وبعد كل
ذلك بإختلاق الأعذار لدونالد ترامب ، وكأنه مغلوب على أمره مع بنيامين نتياهو
الخارج عن عصا الطاعه الأمريكية ، وكأننا أمام حالتين فقدوا أي لغة للتواصل فيما
بينهم وليسوا متفقين على الأهداف الإستراتيجية لهذه الحرب ، فعند عودة دونالد
ترامب محملا بكل هذه الأموال والصفقات وفي أول ظهور على فوكس نيوز ، وضع كل
المبررات الممكنه لبنيامين نتياهو لما يقوم به ، بمعادله بسيطة "علينا أن لا
ننسى ما حدث في السابع من أكتوبر" ، وكأن كل ما حدث طيلة تسعة شهرا لم تكن
أكثر من كافية للرد على السابع من أكتوبر بل عشرات الأحداث من هذا القبيل .
على وقع صور شفا المجاعة الخارجة من غزة ، وتقارير هيئات
ووكالات دولية عديده عن وصول مواطني غزة الى حافة المجاعة ،كثف العالم الضغوطات
على حكومة بنيامين نتياهو ، ليضطر معها لذر الرماد في عيون العالم والبدء بإدخال
الحد الأدنى لمنع الموت جوعا ، يبرر خطوته بالإستجابة لأقرب أصدقاءه في الكونغرس
الأمريكي ، الذين أبدوا الإستعداد لدعمه بكل شيء سوى مشاهد المجاعة ، عدم وصول
المساعدات لأيدي حماس كانت مبرر أكثر من كافي حسب معتقداته لعملية تجويع أكثر من
مليوني فلسطيني ، وعلى العالم أن يصدق كل هذا الهراء ، فلم يعد خافيا بإن المؤسسات
الدولية وعلى رأسها وكالة الغوث لإغاثة وتشغيل الفلسطينيين (أونروا) وبقية الوكالات
هي الهدف الأول وذلك لنزع الشرعية الدولية عن هذ الجزء من العالم بإعتباره أكبر
خزان بشري لضحايا النكبة عام 1948 ، تحضيرا لما يفكر لها في المستقبل ، ولم تكن
الوصول الى حافة المجاعة الا وسيلة ضغط لكي وعي الفلسطينيين ودفعهم للإستسلام ، بل
ودفعهم لطلب الخروج من قطاع غزة ، عبر الإصرار على دفعهم للهجرة نحو الجنوب ، تمهيدا
لدفعهم خارج الحدود .
تنهمك أوروبا الرسمية في البحث عن صيغة للتجاوب مع
الحراك الشعبي في شوارع عواصمهم الكبرى ، ففي المسيرات التي شهدتها هذه العواصم
والتي رفعت شعارات صريحة وواضحة لوقف الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي تقوم
به حكومة الأساطير في إسرائيل ضد الفلسطينيين ، تململ النظام الرسمي الأوروبي لرفض
إستخدام التجويع كأحد أدوات الحرب ، ليعلق البريطانيين مفاوضات إتفاقيات الشراكة
الجديده مع حكومة الأساطير ، ويبدأ الإتحاد الأوروبي بالتلويح بمراجعة إتفاقيات
الشراكه مع حكومة اسرائيل ، والتهديد بالإعتراف بالدولة الفلسطينية ، فيرد بنيامين
نتياهو بإن كل الإجراءات الأوروبية هي من الوزن الذي يقترب الى الصفر وانها دعم
لحماس في مواقفها ، ولم يكتفي بذلك فحسب بل أطلق جنوده المتواجدين في مخيم جنين
على الوفود الديبلوماسية الزائرة هذه المنطقه ، فيرد الإتحاد الأوروبي بإستدعاء
سفراء اسرائيل المعتمدين لديها للإحتجاج على هذه التصرفات ، وكأنها حوادث معزولة
عن أية سياقات أو سوابق في مسيرة العلاقات مع هذه الحكومة .
في 22 مايو إستقبل دونالد ترامب في البيت الأبيض رئيس
دولة جنوب إفريقيا ، وعلى هامش الزيارة ووفق مفهوم الصفقة ، وبعد مسلسل كمائن
الإذلال المعدة مسبقا لرؤساء الدول في المكتب البيضاوي ، لم يغفل أن يوجه
إنتقاداته لسلوك جنوب إفريقيا وقيامها برفع دعوة ضد إسرائيل لدى المحكمه الجنائية
الدولية ، ويضيف بإن هذه الدعوة لن تصل الى أي مكان ، بمعنى أن الولايات المتحدة
ستحبط كل هذه المساعي وستدافع عن كل ما تقوم به إسرائيل ، ولن تسمح لهذه القضية في
الوصول لأي شيء ، فالسابع من أكتوبر هو سببا أكثر من كافي لإغماض العيون عن عشرون
شهرا من الموت والجوع والدمار ، بل أن منطق الصفقة والمضي قدما بها مع جنوب
إفريقيا يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار تعديل هذا السلوك ، أو بمعنى آخر التنازل عن
هذه القضية كأحد متطلبات المضي قدما بها ، أي أن مصالح الولايات المتحدة
الإقتصادية ترتبط إرتباطا وثيقا بمصالح اسرائيل بل بمصالح حكومة أقاصي اليمين .
يتسابق الجنرالات ورؤساء الوزراء السابقين في إسرائيل ،
على توجيه الإنتقادات شديدة اللهجه لحكومة الأساطير ورئيسها بنيامين نتياهو ، وكأنهم
ليسوا ذي صلة بكل ما يحدث ، فكل واحد من هؤلاء قد إقتراف في حدود مسؤلياته السابقه
ما يشبهها وقد يزيد ، إذا فهي المناكفات السياسية المغلفه بصحوة ضمير ، فلو كانت
دعوات وإنتقادات ذات صلة بممارسات حكومة الأساطير على الأرض إتجاه الفلسطينيين ،
لما وصل الوضع السياسي في إسرائيل الى إعتلاء هؤلاء الموتورين لمقاليد السلطة من
الأصل ، ولكن الحقيقه الساطعه تشي بإن القراءات الإستراتيجية لكل هؤلاء تشي بإن
حكومة أقاصي اليمين تؤخذ البلاد ومصالحها العليا الى نقطة حرجة ستفقد معها أسس
العقد الإجتماعي مع مواطنيها بتخليها عن الرهائن ، وستخسر معه موقعها كدولة ضللت
العالم لسنوات بأكذوبة الدمقراطية وحقوق الأنسان ، وظهر وجهها الحقيقي الذي حاولت
إخفاءه عن العالم لسنوات ، وسيؤخذ معه كل المنجزات الإقتصادية والرفاهية التي
تمكنت من تحقيقها طيلة كل هذه السنوات .
في 22 مايو وعلى طبق من ذهب لبنيامين نتياهو ، جاءت
حادثة المتحف اليهودي في العاصمة الأمريكية واشنطن ، حيث قام مواطن أميريكي محسوب
على الفكر اليساري بإطلاق النار على عامل في السفارة الإسرائيلية وزوجته فأرداهم
قتلى ، صنفت هذه الحادثة في الولايات المتحده ، كحادثة كراهية ومعاداة للسامية ، ولا
نعتقد أن مثل هذه الحوادث البغيضة قد تخدم بأي شكل من الأشكال قضية معاناة الشعب
الفلسطيني ، فالوقوف بيافطة وحيدا في هذا المكان لرفض ما يجري من قتل في غزة قد
تكون لها أثرا أفضل عشرات المرات ، ولكنها
وبدلا من أن توضع في سياقاتها الصحيحة ، والقول بإن مشاهد الموت والدماء وموت
الأطفال على مرآى ومسمع العالم ، هي ما دفعت بهذا المواطن وقد تدفع بآخرين لسلوك
مثل هذا العمل ، فعلى العكس منه تماما ، فقد أخذت الى أبعاد أخرى قد لا تمت
للحقيقة بصله على أي حال من الأحوال ، أو على الأقل ألم يكن حري بجهات إنفاذ
القانون إنتظار نتائج ما قد تفضي اليه التحقيقات ، وبخاصة أن الفاعل لا زال على
قيد الحياة ، ولكن هذه الطبيعة الإستباقية لتحميل الحوادث والأشياء ملا تحتمل في
كثير من الأحيان ، تشي بإن خلف الأكمة ما خلفها .
خلاصة القول :ـ
أن كل ما تقدم لا يعني شيئا للحالة الفلسطينية فقد تعودت
على سماعه لعشرات السنوات ، وإن كان بعض الفسطينيين وبخاصة حكام الأمر الواقع في
غزة ، لا زالوا يعتقدون أو يبنون شيئا على كل هذا التكاذب ، بإعتباره بصيص أمل
لبقاءهم في حكم غزة بشكل مباشر أو من وراء حجاب ، فهو درب من الخيال والأوهام بلا
طائل منها بمطلق الأحوال ، وكل ما يفعلوه هو إطالة معاناة إثنان مليون ونصف إنسان
لا أكثر ولا أقل .
تعليقات
إرسال تعليق