" فلتحترق روما "
يقول بيني غانتس أحد أقطاب المعارضه وزعيم حزب الدولة في
إسرائيل ، في معرض تعليقه على دخول الحرب عتبة الستمائة يوم ، " لقد إنتقلنا من حرب الأيام الستة الى
حرب الستمائة يوم ، وأن هذه الحرب كان من المفروض أن تنتهي بعد ستة شهور على الأكثر
، الا أن هناك أهداف سياسية أخرى لها " ، لقد تم إختيار هذا التصريح من بين
عشرات التصريحات لبناء هذا التحليل عليه لأسباب عديدة ، بإن قائله كان في داخل
مطبخ صنع القرار ، فقد إنضم الى مجلس الحرب وواكب يوميات العمليات العسكرية منذ
ايامها الأولى التي تلت السابع من أكتوبر ، عدا عن كونه رئيس سابق لهيئة الأركان
ووزير دفاع سابق وأكثر من يعرف عما يتحدث عنه ، والسبب الأهم بإنه ولتحليل كافة
الوقائع علينا عدم الوقوع في شرك الخلط بين ما يندرج في إطار المناكفات السياسية
الداخلية في إسرائيل من جهة ، وبين الخلافات الجدية في الرؤية السياسيه
والإستراتيجية ، وهذه في العادة يخفونها لأطول فترة ممكنه عبر عملية تضليل إعلامي
واسع النطاق ، وفي العادة فإن المحللين بالأماني والأوهام العرب على وجه الخصوص ،
يتخذون من المناكفات السياسية في إسرائيل قاعدة للبناء عليها ، وعليه فهم لسنوات
طوال لم يصيبوا في تحليلاتهم في أغلب الأحيان ، ولا يريدوا أن يصدقوا الا ما يداعب
أمانيهم في مجمل الأحوال ، فجعلوا البسطاء يصدقون إستحالة القضاء على حزب الله ،
والقوة الخارقة لحماس ، وإستحالة الدخول بريا لقطاع غزة ، وقوة المحور الإيراني
وأنه بات قوة توازن رعب إستراتيجي حقيقي لإسرائيل ، سيكون له ما بعده عاجلا وليس
آجلا ......
·
إن
ما ميز حكم بنيامين نتياهو ما قبل السابع من أكتوبر ، هو تبريد الساحات وعدم
الدخول في حروب طويلة المدى ، وبناء علاقات مع الدول العربية برؤية إقتصادية
والدخول الى الأسواق العربية بشتى السبل ، مع إبقاء حالة الجمود السياسي في الحالة
الفلسطينية كمحرك أساسي لكل الجبهات ، فهذا الجمود وفق منطقه سيؤدي بالضرورة الى
التلاشي التدريجي للقضية الفلسطينية فالإندثار الأكيد ، وحافظ بكل السبل الممكنه
على الفصل السياسي والجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة ، بل سهل بكل السبل
الممكنه الحفاظ على حكم حماس ومده بكل سبل الحياة ، في سياسة معاكسة لسياسات السلطة
الوطنية الفلسطينية بمحاولة تضييق الخناق على الإنقلابيين ، لدفعهم الى إعادة الوحدة
لشطري الوطن ، وقد وجد من العرب من يتواطئ مع هذه السياسات بدعوى فك الحصار ، وباتت
قصة الأموال القطرية بالحقائب معروفة للقاصي والداني ، فقد أرادها قولا وفعلا بإن
تكون ثمن لقتل مشروع الدولة الفلسطينية ، وقد صرح بذلك علانية حين حشر في الزاوية من
قبل مناوئيه في حكم إسرائيل .
·
لم
يكن يخطر لبنيامين نتياهو على بال بإنه ولقاء كل ما فعله لحماس ، بإن تكون تضمر كل
هذا المخزون من التضليل الذي قلب كيانه رأسا على عقب ، فبات المتهم الأول بما
إتبعه من سياسات ، وبات محل هجوم كل من عمل معه سابقا ، من حذره ولم يستمع له ومن
إقترح عليه القيام بإغتيالات ومنعها ، ولمسح كل ذلك من ذاكرة الإسرائيليين فهو يقف
اليوم على رأس هرم أشد المتشددين بضرورة إجتثاث حماس من مجرد التداول وبأية كلف تحتملها
إسرائيل ولا تحتملها أيضا ، فهو يمني النفس أن يشطب من الذاكرة الجمعية
للإسرائيليين أنه هو بنفسه المسؤول الأول عنها ، بل أنه هو من ليس فقط من أنهى
حكمها الذي موله ، بل أنه هو من إجتثها من لغة التداول السياسي .
·
لقد
أثقل ملف الرهائن بشكل حاسم على تسريع العمليات العسكرية ، ومما زاد في تأثيره
كثافة الفيديوهات التي نشرتها فصائل المقاومة ، فلم يعد مصيرهم مجهولا بالنسبة
لذويهم ، على غير ما تمناه بنيامين نتياهو ، فلو كان بمقدوره التخلص من هذا العبء
لفعل ، فحجم الأحزمة النارية التي نفذها الطيران الإسرائيلي في الساعات والأيام
الأولى كان مهولا وفي كل مكان وأقرب للعشوائية ، الا أن فصائل المقاومة كانت تدرك
منذ البداية بإن هذه الورقة هي الأكثر تأثيرا إن تمكنت من الإحتفاظ بهم أحياء
لأكبر فتره ممكنه ، وبالفعل فقد بقيت العمليات العسكرية تضع في الحسبان عند
التخطيط للعمليات هذا العامل على رأس جدول أعمالها .
·
قد
يعتقد البعض أن بقاء أي شكل من الوجود العسكري أو السياسي وحتى الجماهيري لحركة
حماس في تخوم مستوطنات غزة ممكنا ، والحقيقة
أن المؤسسة الرسمية في إسرائيل لا يمكنها أن تسلم بأي شكل من الأشكال بمجرد فكرة
من هذا القبيل ، فإطالة مدى العمليات العسكرية يهدف بالأساس الى تفكيك كافة بنى
حركة حماس والتي تمكنت من بناءها على مدى ثمانية عشر عام ، ليس فقط بما يتصل
بالعمل العسكري أو العمل الحكومي ، بل وصلت المساجد والبلديات والدفاع المدني
والإسعاف والطوارئ والجمعيات الخيرية وحتى العاملين منهم في المؤسسات الدولية ،
والمحاضرين في الجامعات ، ومما لا شك فيه بإنها ستكون عملية معقدة وبحاجة الى مزيد
من الوقت .
·
إن
تدمير البنى التحتية الجاري على قدم وساق في قطاع غزة ، يؤكد المنحى السياسي
الذاهبة اليه حكومة الأساطير ، فهي ستكون في نهاية الأمر بيئة طاردة للسكان ،
فعندما يصل المواطن الى حالة من فقدان البيت ومكان العمل ومدرسة أبناءه ، ومستشفى
يعالجه ، ومركز إغاثة لمعيشته فإن البقاء في مثل هذه البيئة سيكون دربا من الخيال ،
هذا مع إقترانه بفقدان الأمن الشخصي من الإحتلال وطائراته ودباباته من جهة ، وما
بات يتشكل من فلتان أمني وسطوة العصابات الإجرامية المسلحة .
·
إن
بنيامين نتياهو لن يسمح بتفكيك حكومة الأساطير الذي يقف على رأسها ، فهي إن تفككت
قبل أن تتبلور ملامح الأوضاع في قطاع غزة ، فسيحمل اليمين الإسرائيلي كافة مالات المشهد
ولسنوات عديدة قادمة ، ومعها كافة أحلامهم وما خططوا له أيضا ، فإن أي حكومة قادمة
لن تكون من هذا اللون بالمطلق ، وستعود الحياة السياسية في إسرائيل نحو المركز
والذي قد يتساوق مع بعض التشجيع الدولي والعربي ، للخروج بنوع من التسويات التي قد
تقضي على حلم اليمين بدولة من النهر الى البحر خالصة السيادة فيها لإسرائيل .
·
مما
لا شك فيه فإن بنيامين نتياهو وهو يخطط سير العمليات في قطاع غزة ، يضع نصب عينيه
الحالة الشخصية له ، ففي عهده أرتكبت أفظع المذابح بحق اليهود بعد الهولوكوست ،
ومهما حاول النأي بنفسه عنها ورميها في وجه المؤسسة الأمنية ، فستبقى ملازمة له
ولتاريخه والذي هو على المحك أيضا ، فهو يحاكم بملفات وتهم تمس السمعه الشخصية
ونظافة اليد والحكم الرشيد ، فإذا إجتمعت هذه بتلك فهنا سيكون رئيس الوزراء
الإسرائيلي الأول الذي سيجمع بين الفشل الأمني والسياسي بالشخصي ، وهي من أسوء
النهايات التي من الممكن أن تجتمع بأي مسؤول أطلق على نفسه يوما إمبرطور الأمن
والإقتصاد .
·
أن
حالة التفكك المجتمعي وتدمير منظومة القيم الوطنية والأخلاقية باتت على المحك ،
فالتجويع الشديد وحالة التنقل من مكان لآخر ، وفقدان الأمن الشخصي بات الحصان
الرابح الذي يراهن عليه بنيامين نتياهو ، في دفع
الناس في البحث عن ملاذات آمنة ، وخلق تشكيلات وبدائل محلية تتساوق مع
الإحتلال ، وتحت ضغط الحاجة فستندفع شرائح عديدة للتعامل مع هذه التشكيلات ،
ورويدا رويدا يبدأ التطبيع المجتمعي مع هذه التشكيلات كأمر إعتيادي ، وهنا سيكون
الإنقسام المجتمعي الحاد والبدء في حالة صراع داخلي سيقسم ظهر المشروع الوطني
برمته .
·
يدرك
بنيامين نتياهو أن لا قوة بمقدورها تفكيك منظومة الحكم في حماس وتشكيلاتها المسلحة
سوى الجيش الإسرائيلي ، وليس بإمكانه أن يراهن مجددا على إنابة آخرين للقيام بهذه
المهمة بدلا عن الجيش الإسرائيلي ، فكافة المقترحات المطروحة على الطاولة حتى الآن
، من قبيل تخلي حماس عن الحكم وتشكيل هيئات محلية برعاية مصرية أو غيرها ما هي الا
ذرا للرماد في العيون ، سرعان ما ستلتف عليها حماس وتعطلها وتفشلها ، فهو أكثر من
يعرف ذلك ، بل أمدها بكل الأسباب للتتمكن من فعل ذلك ، فقدم لها الرواية والمادة
الإعلامية لتعزيز عدم شرعية وجود السلطة الوطنية الفلسطينية في غزة مجددا .
·
يعتقد
بنيامين نتياهو بإن أحداث السابع من أكتوبر قدمت له فرصة لن تتكرر مرتين على المدى
المنظور من تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، سيحملها كل ما تحتمله ولا تحتمله
أيضا ، فالصراع الوجودي وإستحضار القوالب اللفظية من المقدسات والتي باتت حاضرة في
كل ما يقوله تؤكد المنحى الذي هو ذاهب اليه ، فهو يعتقد بإنه بهدم مخيمات
اللاجئيين وتسويتها بالأرض ، ومنع عمل وكالات الإغاثة الدولية في قطاع غزة ، سيكون
بذلك قد شطب قضية اللاجئين الفلسطينيين من أجندة الشرعية الدولية ، كما أنه يعتقد
بإن أعادة إحتلال غزة وضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية سيقضي على حلم الدولة
الفلسطينية للأبد .
خلاصة القول :ـ
إنه بنيامين نتياهو أكثر
ملوك إسرائيل الغير متوجين تربعا على عرشها ، فقد أمضى في حكمها قرابة ثلث عمرها ،
لقد غيب بالتحريض من حاول إيجاد أية تسويات لأزمة وجودها ، وغير تحالفاته أكثر مما
غير ملابسه ، حتى إستقر به المقام مزويا حبيس أقاصي اليمين في إسرائيل ، بلا أية هوامش
مناورة كان قد تعود عليها ، أكثر من يعرف اليوم بإنه عهده قد ولا بلا رجعة ، إن لم
يكن بإخفاقات السياسة والأمن ، فبإخفاقات الحكم الرشيد ، فبات يحرق مراكب العودة
الى الخلف واحدا تلو الآخر ، بلا توقف مع العالم بأسره ، لأن أي توقف يعني فرصة
ضائعة لبضعة أشهر أخرى في الحكم ، يخوض مقتلة كبرى في غزة ، هدم للمنازل بلا هوادة
في مخيمات الضفة ، يضرب في لبنان كلما إستطاع لذلك سبيلا ، يضرب في سوريا حتى وبعد
دخولها بيت الطاعة الأمريكية ، يشتهي توجيه ضربة قاسمة لإيران قبل مغادرته سدة
الحكم ، يسابق الزمن في صراع لا ينفك مع كل شيء وأي شيء ، يذكره بما كان من أوهام
وأحلام إعتاش عليها لسنوات ، سلام إقتصادي وتطبيع بلا أثمان ووفرة إقتصادية ، فإذا
به سراب يحترق عن آخره ومعه أحلام عراض ، فإذا كان هذا هو حال تقلبات السياسة
والسياسيين ، فليحترق كل شيء ، يحفظ عن ظهر قلب شعارات أكل الزمن عليها وشرب ، يجترها
كلما شعر بإقتراب النهايات ، يقلب في أرشيف كافة تجارب إسرائيل الفاشلة ، فيختار
أفشلها على الإطلاق ، يسلح بعض اللصوص ومدمني المخدرات وقطاع الطرق والمنبوذين
إجتماعيا لحكم غزة ، لا يستمع لكل التحذيرات عن خطورة هذه اللعبة وارتداداتها ، لا
يستمع ولا يرى الا ما هو في مخيلته ، غزة المسواة بالأرض ، بشر يتضورون جوعا ومرضا
، فوضى عارمة تعم المكان وصراعات أهلية ، هكذا هو منطق الأشياء لدى المرضى بجنون
العظمة ، فليس من باب المصادفات التاريخية الا يجد على وجه الكوكب الا حاكما واحدا
يصوت الى جانبه مقابل اربعة عشر دولة ، فهو ليس بأفضل حال ، فيكفيه صفعة حليف
الضرورة بالأمس إيلون ماسك ، بإن يرميه بتهمة ورود إسمه في ملفات جيفري إبستن ،
لتقول كل شيء عما هما عالقان به في دوامة
لا تنفك بين عوالمهم الخاصة من جهة ، وحقائق الواقع التي تسير بإتجاهات معاكسة
تماما ، فما بين أحداث تجنيد الحريديم في إسرائيل ، وأحداث طرد المهاجرين في
كاليفورنيا ، أوجه للشبه تكاد تقول كل شيء عن حكام هاتان الدولتان ، فما هما ذاهبان
اليه لا يختلف البتة عما فعله نيرون والذي كان ثمنه كلمتان "فلتحترق روما ".
تعليقات
إرسال تعليق