القائمة الرئيسية

الصفحات

 




الوقت كالسيل إذا لم تقطعه قطعك   

بعد توقيع الرئيس “علي عزت بيغوفيتش” على اتفاق دايتون عام 1995، توجه لشعبه بخطاب تلفزيوني قائلا : “ إن هذا الاتفاق ليس عادلا ، ولكنه أعدل من استمرار هذه الحرب الظالمة "

بهذه الكلمات لخص قائد تعرض شعبه لحرب إبادة وتطهير عرقي ، وهي تشير الى أهمية وقف النزف بشتى أصناف الموت ، وهي تعكس بما لا يدع مجالا للشك قراءة واقعية لمجمل مكونات الموقف العسكري والسياسي على الأرض ، وقراءة دقيقة للمخططات التي يتم إعدادها من قبل الخصوم بدقة ووضوح ، والإستماع لصرخات الناس الذين يتعرضون لهذه الوحشية ، والخروج بقرارات من أرض المعركة ، من رجل قاد المعارك بنفسه ، ولم يخوضها من إستديوهات البث الإذاعي ولا من الفنادق أيضا ، وفي التوقيت المناسب وبلا أي تردد ، وأن لم تكن لهذه القرارات هذه الشعبية أو ربما تعكس شكلا من أشكال الهزيمة ، ولكنها في نهاية المطاف ستؤدي الى إيقاف النزف والأضرار الجسيمة لو إستمرت لمزيد من الوقت .

من المؤكد بإن هناك أوجه للشبه والفروقات أيضا ، بين حرب البوسنة والحرب الدائرة في غزة ، ولكن أهم العوامل المشتركة بينهما هي التكلفة البشرية الهائلة لكليهما ، ولكن يقف على رأس أبرز الفروقات ، هو عدم إدارة الحرب البوسنية بمنطق صناعة الإنتصارات الوهمية ، وهو ما ميز سلوك حكام أمر واقع غزة منذ بداية الحرب ، فقد أسمعت خطابات ومحللي هذا المعسكر العالم بأسره ، عن إستحالة دخول بري لقطاع غزة ، وإذا بدبات جيش الأساطير تجوب غزة من أقصاها الى أقصاها ، ومن لم يستمع الى موسى ابو مرزوق قبل دخول رفح حيث قال " يهددوننا بالدخول الى رفح ، فليدخلوها ولنرى ما هم فاعلون" فباتت رفح أثرا بعد عين ، وكذا الحال في جباليا والشجاعية وحدث ولا حرج ، ولا زال ذات الخطاب سيد الموقف ، فلا يسع الناس من خارج غزة عندما تستمع للقتال المرتقب في غابات الزيتون ، الا أن يتسلل لها شعور أن الحديث يدور عن غابات للزيتون موجوده في تونس أو المغرب وربما إسبانيا ، فيذكره أحد سكان حي الزيتون ، بأن الحديث يدور عن عشرون شجرة غير مثمرة في حي الزيتون التي ستدور المعركة في وسطها .

ليس صدفة أن تنطلق دعوات من العديد من سكان قطاع غزة للحكومة المصرية بإعتقال الوفد المفاوض عن حماس ، والدفع بهم الى داخل قطاع غزة ، ليعيشوا معهم يوميات هذه الحرب ، ليتمكنوا من التفاوض بالشعور بمعاناة من يتعرض للموت وإتخاذ قراراتهم بشعور من فقد كل شيء ، بدلا من إضاعة الوقت في شن الهجوم على دول لا تخفي عن العالم حدود إمكانياتها ، ومطالبتها بما لا تتمكن من فعل أكثر مما فعلته ، لتعود مجددا اليها طالبا تدخلها ، ولكن بعد وساطات من دول كنت تخالها هي البديل للوفادة وكرم الضيافة ، فما كان منهم سوى رفع يافطة في وجوههم بإن عنوانهم خاطئ ، وإن الطريق لخروجهم من مأزقهم هو بإتجاه واحد وهي مصر لا غير ، وأنهم مستعدين فقط لترميم ما أفسدوه بتصريحاتهم التي لا تعكس سوى عدم إدراك للحقائق على الأرض .

ثلاة شهور من التلكئ على الموافقة على مقترح بنيامين نتياهو والذي تم تسميته بخطة ويتكوف ، ومفاوضات مرثونية في كل فنادق العالم ، فهل سألوا أنفسهم عن كلفة هذا التلكؤ من الضحايا والدمار والجوع والمرض ، لا بل هل سألوا أنفسهم ما هي الكلف السياسية حين يقال بإن موافقتهم لم تكن ممكنه سوى بالضغوطات العسكرية على الأرض ، وتهديدات قيصر البيت الأبيض على منصة تروثسوشيال ، لا بل أن بنيامين نتياهو اليوم بات هو المعترض على خطة بنيامين نتياهو قبل ثلاثة شهور ، فلم يعد بحاجة لها فالمطلوب هو كل الأسرى الأحياء والأموات بنفس الثمن من الوقت لنصفهم ، فالوقت الضائع وفق منطقه هو على حساب من تلكأ بقبول الخطة .

عربات جدعون 2 أو إحتلال مدينة غزة أو كما يحلو لبنيامين نتياهو بتسميتها بالسيطرة على مدينة غزة أو بمعنى آخر إحتلال بلا تحمل نفقات وتبعات ، حين وصفها محللو إستراتيجيات حكم الأمر الواقع بإنها مجرد خطة للضغط على المقاومة لتقديم تنازلات ، وإذا بها تقرع الأبواب كأمر واقع حتى لا تنتهي الحرب قبل تسوية مدينة غزة أو ما تبقى منها بالأرض كشمال غزة ورفح ، أو كما قال كاتس في عدة تصريحات يومية مفادها ، ستضحي مدينة لن يتعرف أهلها على ملامحها القديمة .

من كبرى المصائب التي حلت على الشعب الفلسطيني ، أن يتحكم قلة منه بمستقبل غالبيته ، وأن يضع له ممثلو غالبيته ومعهم العرب سلم للنزول عليه بأقل الخسائر الممكنة ، ولكن عقلية الإستحواذ والتفرد بإتخاذ القرارات والعيش بأوهام الإنتصارات ، تدفعهم لينقضون البديهيات العقلية والمسلمات المنطقية والمعطيات الواقعية ، بل يذهبون وبكامل إرادتهم الحرة الى مخططات بنيامين نتياهو ودونالد ترامب بقدميهم ، ولا زالوا يعتقدون بإن إسترايجيات إحتجاز الأسرى التي بحوزتهم لا زالت صالحة للإستخدام والتي لم تكن يوما في قمة سلم إهتمامات بنيامين نتياهو ، فإنتشالهم جثث هامدة ربما يكون الثمن الذي بات متفقا عليه بين دونالد ترامب وبنيامين نتياهو ، فهم بغالبيتهم من الجنود ولن يكونوا بأكثر أهمية في حسابات الربح والخسارة أكثر من الجنود الذين سقطوا في المعارك أو الذين سيسقطون في المعارك الجديدة ، على متن عربات جدعون 2 في مدينة غزة ، وربما جدعون 3 في منطقة المعسكرات الوسطى والتي ستتبعها مباشرة أو بالتزامن معها .

خلاصة القول :ـ

لا وقت لدى بنيامين نتياهو فهو آخذ بالنفاذ وفق توقيتات واشنطن ، فكومة الملفات المكدسة على طاولة قيصر البيت الأبيض وفق منطق تخيلاته لا حصر لها ، فالحرب الأوكرانية وإحتوائها هي حجر الزاوية ، فمنها سينبعث حلم لنعد لأمريكا عظمتها مجددا ، فهي تعني التفرغ لمواجهة الزحف الصيني الذي لا يتوقف ، وهو ليس بحاجة الى صور المجاعة والهياكل العظمية التي تملأ الفضاء الإعلامي ، لتطغى على صور قيصر وهو محاط بقادة الدول وقوفا ، يكيلون له الشكر عشرات المرات على حسن صنيعه  ، فهذه التفاصيل من غزة الى لبنان ومعها العراق فاليمن والسودان وفق منطق الصفقات ، صغيرة الى الدرجة التي تحتمل تأجيلها والتي يمكن معالجتها لاحقا بتبريدها ، بإنتظار معالجتها الأشمل في إطار الصفقة الكبرى التالية مع ايران مباشرة ، بعد إحتواء أم الأزمات (الحرب الأكرانية) .

ثلاثة سنوات ويزيد قد تبقى على حكم دونالد ترامب ، وهذا التحالف والدعم الغير مسبوق من أي إدارة أمريكية سابقة لبنيامين نتياهو ، وإختلال لا يمكن مقارنته في ميزان القوة العسكرية لصالحه ، وفي ظل حكومة أقاصي اليمين ، والسؤال الذي بات يلح على قيادة حكام الأمر الواقع في غزة ، هل لا زال لديهم فائض من الوقت ورباطة الجأش حتى البلادة لمزيد من مشاهد الموت والمجاعة والدمار ؟ وهل وصل العمى السياسي بهم حدود عدم رؤية الواقع على حاله ؟ بعيدا عن بيع الأوهام للناس بإنتظار المعجزات القادمة من السماء ، والتي يعرفون تمام المعرفة قبل غيرهم ، بإنها لا ولم ولن تأتي بالشعوذة وصناعة الأساطير ، بل بالعلم والقدرات وإمتلاك مهارات إستثنائية لإدارة صراع عمره سبعة وسبعون عاما ، ليس فقط بإختيار الوقت المناسب لفتح فصل من فصوله ، بل للخروج بأقل الخسائر بالتوقيت المناسب وإسدال الستار عليه أيضا .   

 

تعليقات