جولة في أسواق الصحابة
من الصعوبة بمكان أن تكتب أو تناقش واقع غزة ما لم تعش
ظروف وتجربة أهلها ويومياتهم ، فعلى كثرة مواقع التواصل الإجتماعي والصداقات التي
من الممكن أن تضعك في صورة الوضع لديهم ، فلا يمكنك حتى الساعة إستيعاب أصلا كيف
بقي الناس على قيد الحياة وسط كل هذه الصنوف من ألوان الموت ، 670 يوما والحبل على
الجرار من عداد الموت ، إن حاولت مجرد التفكير بعمق فيها ، وبقيت سالما نفسيا
فستكون محظوظا ، يكفي أن تطالع ما تتناقله شبكات التواصل الإجتماعي ، بخصوص أسعار
السلع والخدمات في أسواق غزه ، فأول ما سيتبادر الى ذهنك سؤال مفاده ، هل هذه هي
غزة التي كنت تعرفها ، ومعها بساطة حياة الناس هناك ؟ هل هذه هي غزة التي لا يعرف
أهلها واسرهم الممتدة المشتريات بالكيلو
غرام بل بالعبوات كبيرة الحجم ؟ هل هذه هي غزة التي كانت تصدر فائض خضرواتها الى
الضفه فتعمل على خفض الأسعار في أسواقها الى ما دون النصف ؟ ولكن بما أن دوام
الحال من المحال في ظل حكم العابثين بالحياة ، فإليكم بعد الإعتذار قسطا من غثيان
على ما آلت اليه الأحوال ، فيكفي أن تعرف بإن مساعدة مالية لمواطن من غزة قد يتحصل
عليها بشق الأنفس بقيمة الف شيكل فيتسلمها اليوم ومن ممر قصري ومن يد أحد أبناء
جلدته فقط اربعمائة وخمسون شيكل ، من المثير للإستغراب ويدعو للإستهجان إن أسعار
السلع الأساسية قد تتجاوز العشرون ضعفا ، هذه الأسعار الفلكية هي أسعار السلع
الشحيحة ، التي لا تطابق معايير الإستهلاك الآدمي في كثير من الأحيان ، المعروضة
بلا أدنى شروط للصحة العامة على ما تبقى من أرصفة وشوارع غزة ، في بلد توقفت فيه
عجلة الحياة الطبيعية والإنتاج عن الدوران ، فلا مداخيل فيها تقريبا لدى غالبية
الناس ، ومن تصله جرعة من كفاف ، فسماسرة المال له بالمرصاد ليقتطعوا أكثر من
نصفها ، بمعنى آخر أن على رب أسرة مكونه من ستة أفراد أن يمتلك ما يقارب 150 شيكل
(أربعون دولار تقريبا) لتوفير وجبة طعام واحده في اليوم وهذا في أقل التقديرات ،
تتسائل كيف يحدث هذا وكيف يتدبر الناس يوميات حياتهم ، فتسمع العجب العجاب ، أو
بالأحرى هي أقرب لثنائية صدق أو لا تصدق ، فيكفي أن تعرف بإن غالبية السلع
الأساسية المعروضه على الأرصفة ، هي بالأصل دخلت كمساعدات مجانية للناس ، وباتت
تباع لمستحقيها بمثل هذه الأسعار الفلكية ، أما عن كيف وصلت للباعة على الأرصفة ،
فهنا تكون قد دخلت الى حلقة جهنمية ، فهي ما بين السطو الفردي الى السطو المنظم
وصولا الى تنظيمات عصابية باتت واقعا على الأرض تجردت من كل القيم الأخلاقية
والوطنية ، قد تفهم أن يعتلي جائع ظهر شاحنة للحصول على طرد غذائي أو كيس طحين لسد
جوع عائلته ، أما أن يمتهن السطو مع آخرين على شاحنة محمله بمئات الطرود لبيعها
على الأرصفة حارما مئات الأسر من هذا الحق فهو شيء مختلف تماما ، والأنكى من كل
ذلك أن يعمل مع تشكيل عصابي لصالح تجار الدم والموت ، تاركين خلفهم الاف الأسر
تعاني الجوع والعوز ، وتجبرهم على شراءها بمبالغ فلكية ، هذا أن تمكنوا من شراء
القليل منها ، أما إن كانت الشاحنات مخصصة لتجار الموت ، فلا أحد يعترضها بمطلق
الأحوال وتمر بسلام ويتبخر اللصوص وقطاع الطرق من تلك المنطقة .
أدركت حكومة الأساطير وأجهزة أمنها منذ الساعات الأولى
لهذه المقتلة ، أهمية الغذاء كسلاح ، فقد صرح وزير الدفاع يوآف غالانت وبعد يومين
من أحداث السابع من أكتوبر بإعلان الحصار وبالحرف الواحد قال " لا كهرباء ،
لا طعام ، لا ماء ، لا وقود " ونسي أن يضيف لها الدواء ، أغلق كل المنافذ
المؤدية الى غزة والتي يحمل في جيبه مفاتيحها وأن تعذر فبالنار عن بعد أيضا ، وبات
تدفق السلع رهنا بتقدم العمليات العسكرية ، ووسيلة في المفاوضات الخاصة بالرهائن ،
في سابقة تحرمها كافة الشرائع الدولية ، تحت شعار عدم وصولها لحكام الأمر الواقع
في غزة تارة ، أو وصولها لمؤسسات دولية يسعى الى تقويض عملها في فلسطين عموما ،
ووسط هذا الشح وكعادة تجارة كل الحروب في العالم وفي المناطق التي يفقد فيها الأمن
، سرعان ما تنشأ طبقة في المجتمع لديها قابلية الإنسلاخ عن هموم مجتمعها ، جريا
وراء جمع الثروات كفرصة سانحة لن تتكرر ، ضاربة عرض الحائط بمعاناة الغالبية
العظمى من أفراد المجتمع ، عن جهل في بعض الأحيان ، ولكنها في الأغلب والأعم من
الأحوال ، تعرف تماما بإن سلوكها يصب مباشرة في مصلحة من يفرض الحصار على جموع
الناس ولها منطقها المعوج في ذلك .
تفتق الفكر الحاكم لحكومة الأساطير عن إنشاء مؤسسة غزة
الإنسانية لتقديم المساعدات ، وهو مشروع اسرائيلي أمريكي لتقديم المساعدات
الإنسانية لسكان غزة ، والذي عمل برؤية توافقت البلدين عليها لكيفية هندسة إدارة
المساعدات الإنسانية ، بما ينسجم مع الرؤية المستقبلية لقطاع غزة ، بحيث تحقق عدم تمكن حكام أمر واقع غزة
الحاليين من الإستفادة منها من جهة ، وتمنع المؤسسات الدولية العاملة منذ عشرات
السنوات في هذه المنطقة من العالم من ممارسة دورها التي أنيط بها من قبل مؤسسات
الأمم المتحدة ، وما أن بدأت عملها على الأرض حتى بدأ معها فصل جديد من رحلة معاناة
الفلسطينيين ، كان عنواناها الأبرزان فوضى عارمة تسود المكان تفضي الى الموت
المؤكد ، وإذلال وقهر لا يتخيله البشر ، فلك أن تتصور عشرات الألوف من البشر
يتسابقون على بضعة الاف من الطرود الغذائية ، ممرات ضيقة من الأسلاك الشائكه ،
محاطة عن بعد بدبات وجنود ، لا يوجد من ينظم الدخول والخروج ولا تسليم الطرود ، لا
آليات واضحه ولا بطاقات شخصية ولا مناطق محددة مستهدفة ، مهما ذهبت مبكرا الى
المكان فستجد المئات قد سبقوك الى هناك ، كل من يقترب من المشرفين عن بعد على
التوزيع نتيجة الإزدحام والتدافع فرصاصة بالرأس والأجزاء العلوية من جسده ستكون من
نصيبه ، يعود القادر على تحمل مشاق هذا الماراثون بطرد غذائي ، والأقل حظا فيلتقط
عن الأرض بعض بقايا ما تخاطفته وتسابقت عليه الأيدي ، أما الأغلب والأعم فيعود
خالي الوفاض ومعهم ما تيسر من عشرات الجثث والمصابين .
إن الحالة التي وصلت اليها غزة ليست وليدة ليلة وضحاها ، بل هي النتيجة الحتمية للسياسات التي إتبعها
حكام أمر واقعها ، بدءا من إنقلابهم قبل ثمانية عشر عاما وحتى يومنا هذا ، فمن هو
الذي يفتح جبهة وعمليات قتالية بهذا الإتساع ، دون التخطيط مسبقا عن سبل تدفق الإمدادات
الأساسية لحياة الناس ، ومن هو الذي يفتح صراعا بهذا الإتساع ، ولا يوفر إمدادات
غذائية لستة شهور على أقل تقدير ! ومن هو الذي يحافظ على نظام جباية الضرائب على
السلع والمواد الغذائية على حالها بل يرفعها إبان المقتلة الجارية في المكان ! من
هو الذي أسس لفكرة إعتراض شاحنات الإغاثة القادمة للمؤسسات الدولية في بداية الحرب
! من هو الذي حرض الناس على إقتحام مخازن المؤسسات الدولية ونهبها في مطلع الحرب !
من هو الذي ألزم الناس بالحصول على تصريح من إمام المسجد أو مسؤول الأسرة
الأخوانية في منطقة تواجده لتلقي طرد غذائي أو تعبئة أنبوبة غاز ! من هو الذي ميز
بين الناس تبعا للولاءات السياسية في تلقي المساعدات ! لقد قدموا لكل من يهمه
الأمر حول العالم أسوء النماذج في إدارة العمليات الإنسانية ، وإستغلال حاجات
الناس لترسيخ حكم الحديد والنار ، وإضطرت المؤسسات الدولية للرضوخ لمنطق الإخضاع
بالقوة والا فسيتوقف عملها ويذهب أدراج الرياح ، أما حكومة الأساطير والتي ليست
أصلا بحاجة كل ما تقدم لإستخدام الغذاء كسلاح ، ولكنها تستخدم كل ذلك في
بالبروغندا الإعلامية بالصوت والصورة وروايات الشهود على الهواء مباشرة كلما لزم ،
لتذكير العالم بما يجري هناك .
لم يسقط هؤلاء التجار على غزة من كوكب آخر ، فهم الذين
تم ترويضهم وإخضاعهم من قبل حكام الأمر الواقع على التسليم بإقتطاع ثلث بضائعهم
بدل الضرائب المفروضه عليهم ، لتمويل رواتب موظفيهم وتمويل الأنشطة الحكوميه ،
وترك لهم الحبل على الغارب ، ليعوضوا هذه الأتاوات المقتطعه من بضائعم بطريقتهم
الخاصه ، عدا عن العمولات للوسطاء الذين يدخلون هذه البضائع على الجانب الآخر ،
وجيش من العاملين في حماية هذه البضائع من السلب والنهب والقدرة على ترويجها بهذه
الأسعار ، مضافا اليه النهم في وضع هامش الأرباح الى الحد الذي يلبي غريزة الجشع
المتأصله فيهم والتي هي أصلا بلا سقوف ، والذي إعتادوا عليها في ظل منظومة الفساد
خلال ثمانية عشر عاما من حكم الأمر الواقع هناك .
عندما وجد المواطن الفلسطيني العادي نفسه عالقا وسط هذه
الدوامه التي لا تنفك ، وأمام حالة الجوع المفروضه عليهم ، أخذت شرائح واسعة في
المجتمع منحى الإنخراط في هذه الحالة ، أوعدم مناصبتها العداء والتصدي لها على
الأقل ، فباتت قواعد تترسخ يوما إثر يوم ، لتحل بديلا لمنظومة كانت يوما من ثوابت
المجتمع الفلسطيني وسببا لصموده طيلة سنوات الصراع ، لن تستمر العمليات العسكرية
الى الأبد ، فستنتهي يوما ما قرب أم بعد ، ولكن الأخطر لم يأتي بعد ، فكيف لمجتمع
تعرض لكل هذا الموت والجوع وتسلط ذوي القربى وتوقف عجلة الإنتاج عن الدوران ، في
ظل غياب تام للأنظمة والقوانين الناظمة ، وشيوع قوانين مستحدثة لأخذ القانون باليد
والبلطجه ، وتدمير لمنظومة التعليم بإن يعود مجددا الى حياتة الطبيعية ؟
شئنا أم أبينا فلا يمكن إيجاد توصيف الى ما يجري في غزة
سوى صراع الوجود والبقاء ، فأنت أمام حكومة أساطير تسعى بكل السبل الممكنه من جعل
الحياة على هذه الأرض دربا من الخيال ، يقابلها حكام أمر واقع للمكان لم تستطع
مخيلتهم وأفقهم المحدود من التسليم بعدم قدرتهم على إدارة الحالة الراهنه ، وأن كل
الظروف المحيطة بهم تعمل في غير صالح مجتمعهم بكل الأحوال ، فلا زالوا يعتقدون بأن
عشرات من الرهائن الأموات والأحياء هما الكرت الرابح في يدهم حتى الآن ، غير مدركين
أن هذا الكرت الرابح بات وسيلة لمزيد من القتل والدمار وليس العكس بكل الأحوال ،
وأن إستخدامه من قبل حكومة الأساطير ليس أكثر من يافطة ، لإضفاء مزيد من الشرعية
المحلية والخارجية لإستمرار القتل والتدمير بكل الأحوال ، ولن يتم حله الا مع
إستمرار العمليات العسكرية ، فيكفي أن تعرف أن إنتشال جثة واحدة ، وكم يدفع من خسائر في الأفراد
والعتاد لإنجازها ، وتفضيلها على صفقة ، لتكون أكثر من كافية لتشير الى المنحى
الذي هم ذاهبين اليه ، وحتى لا يتم القبول بأسوء مما كان مطروحا ولكن بعد الاف من
الضحايا في كل مرة ، فكل دقيقة في غزة هي من موت ومزيد من الدمار .
خلاصة القول :ـ
بعد جولة
بالطائرة المروحية وبالسيارات المصفحة لمدة خمسة ساعات على أرض وفي أجواء غزة ، فقد
قرر ويتكوف بإن لا مجاعة في غزة ، وأن سياسات بنيامين نتياهو هي الأمثل لمعالجة ملف
الحرب في غزة ، وأن لا وقف للحرب بلا إطلاق سراح الرهائن دفعة واحدة ونزع سلاح
حماس ، وأن الرزمة الجديدة المقدمة لحماس ستتضمن هذه العناوين ، وبمعنى آخر فعلى
بنيامين نتياهو أن يخرج الخطة باء من الأدراج والبدء بتنفيذها مع كامل الدعم من
الولايات المتحدة الأمريكية ، والخطة باء معناها القتال في منطقة مدينة غزة ومنطقة
المخيمات الوسطى ، والتي يتواجد غالبية ما تبقى من الأسرى الإسرائيليين الأحياء
بها ، ترد قيادات حماس بإن لا سحب للسلاح الا بعد إقامة الدولة الفلسطينية على
الأرض ، وأن الممر المقترح لتسليم السلاح للسلطة الوطنية الفلسطينية وبرعاية العرب
والمجتمع الدولي فهو مرفوض أيضا ، وحتى يزيدون على هذا الشعر بيتا ، فيقول غازي
حمد فأن على أهل غزة الصبر والصمود فتفكك
اسرائيل قد بدأ ، فيرد عليه بسطاء غزة ، حسنا فلتحضروا ومعكم عائلاتكم لتشاركونا
هذا الصبر والصمود وتضيفوا لسجل جهادكم أجر الموت جوعا ومرضا وقصفا وقهرا ، فهو
أكثر ثوابا وأجرا من جهاد الكلمة من فنادق الدوحة وإسطنبول ...... يتناوب بنيامين
نتياهو وحكومة أساطيره مع قيادة حماس ، على تعميق أزمة الغزيين فكلاهما يعرفون
الطريق تماما ولكنهم لا يريدون ارتيادها ،
فإرتيادها سيكشف المستور وعقم سياسات التخادم على مدى ثلاثين عاما وأكثر ، ما حدث
في غزة قد حدث وقضي الأمر ، فهل من يتعظ بالشق الآخر من الوطن ، وهنا يكمن بيت
القصيد !!!
تعليقات
إرسال تعليق