سيد ترامب ، طريق الجحيم
مساراتها متعددة
يقول أبرز رموز القومية العربية الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ، " عبقريتكم أيها الأمريكيين هو أنكم لا
تتخذون خطوات غبية واضحة ، بل تقومون بتحركات غبية معقدة ، مما
يجعلنا في كل مرة نتساءل ، حول إحتمالية أن يكون قد فاتنا شيء ما "
لقد كان هذا صحيحا حتى وصول دونالد ترامب في ظروف ملتبسة
الى البيت الأبيض ، فلم تعد الولايات المتحدة بحاجة الى تحركات غبية معقدة ،
لنتساءل أن كان قد فاتنا شيء ما ، ففي
كلتا ولايتي حكمه كان هذا هو الحال دائما ، فلن ينسى العالم في ولايته الأولى في
أوج أزمة كورونا حين دس أنفه في شؤون طبية متخصصه ، حيث دعا العاملين الصحيين في
إحدى مؤتمراته اليومية المنقولة مباشرة الى العالم ، بحقن المواطنيين الأمريكيين
بالمعقمات الكيماوية ، على إعتبار أن لديها القدرة على قتل البكتيريا والجراثيم
والفيروسات التي تعلق بجلد البشر وملابسهم وأمتعتهم ، عدا عن فوضى عارمة أنهى بها فترة حكمه الأولى ،
توجها بدعوة مناصريه بالنزول للشوارع لمنع المصادقة على نتائج الإنتخابات
الأمريكية التي فاز بها جو بايدن ، لتنتهي هذه الدعوة بإقتحام مبنى الكابيتول ، في
سابقة لم تشهد لها الولايات المتحدة مثيلا ، ليطل بعد أربعة سنوات في ولايته
الثانية محملا بأمال عراض بإن يكون قد تعلم شيئا مما كان منه في ولايته الأولى ،
بإيقاف الحروب وإحلال السلام ، فما كاد يمضي سبعة شهور من الحكم ، لم يترك فيهما
أحدا الا وإختلق أزمة معه ، إبتداءا بحلفاء الولايات المتحدة قبل خصومها ، ليصحو
العالم ويبيت على مشهد قاتم ودوامة من الأزمات لا إنفكاك منها .
يصحو دونالد ترامب على صدى أصوات إنفجارات أحدثتها
طائرات حكومة الأساطير ووجهتها هذه المرة صوب الدوحة ، التي قذفت حممها نحو إجتماع
إفتراضي لأبرز من تبقى من قيادات حماس هناك ، يناقش خطة قيصر البيت الأبيض لوقف
الحرب في غزة ، في مكان متهم بإحتضان سجدة الشكر بمناسبة إنطلاق أحداث السابع من
أكتوبر ، على أرض سيادية لدولة تواطئت معه على الحالة الفلسطينية ، بتنسيق تام مع
حكام البيت الأبيض المتعاقبين ، منذ زمن الحمدين وصولا الى سليل العرش تميم ، وبين
نجاح الضربة وفشلها وبعد طول إنتظار تطل المتحدثة بإسم البيت الأبيض كارولين ليفات
لتقرأ بيان معد بعناية يثير أسئلة أكثر مما يجيب عليها ، مضمونه عدم مشاركة
الولايات المتحده بقرار الضربة ، وأن البيت الأبيض أبلغ بالضربة من قبل الجيش
الأمريكي ، وأنهم نقلوا هذه المعلومات للقطريين بواسطة ستيف ويتكوف ، على الرغم من
سمو هدف الضربة بالقضاء على قيادات حماس ، الا أن المكان المختار لتنفيذها ، فهو لا
يشاطر بنيامين نتياهو الرأي به ، وبخاصة أنها أرض سيادية لدولة حليفه ، قد بذلت
جهود مضنية لتعزيز السلام ، وأن دونالد ترامب أجرى إتصالات مع كل من أمير قطر
ورئيس وزراءه شارحا الموقف لهم معبرا عن إستياءه من قرار بنيامين نتياهو ، كما
أجرى إتصالات مع بنيامين نتياهو لم يفصل فيه كثيرا .
يلغي دونالد ترامب لقاء صحفي كان مقررا سلفا ، على هامش
التوقيع على طوفان أحد أوامره التنفيذية اليومية ، ويختار التوجه الى مطعم لا يبعد
سوى أمتار عن البيت الأبيض ، فكان بإنتظاره عدد من الصحفيين ليعيدوا السؤال حول
هذا الحدث فيكرر ما قالته كارولين ليفات ويضيف عليها ربما تكون هذه الضربات تدعم
عملية السلام ، ويحث قطر على الإستمرار في مسعاها ، وأن هذه الضربة لن تتكرر على
أراضيها ، واعدا الصحفيين بإن يكون له معهم لقاء يوم غد ، ليتحدث بتفاصيل أكثر مما
جاء في كلامه المقتضب وما جاء في بيان الناطقة الرسمية ، فما الذي سيضيفه دونالد
ترامب بهذا الشأن فهل سيتمكن من الإجابة على توقيت الضربة التي أختاره بنيامين
نتياهو "مناقشة تفاصيل خطة دونالد ترامب لوقف الحرب" ، وهل كانت خطته هي
المصيدة التي أستوجبت تجمع هذا العدد من القيادات الذي إستغلها بنيامين نتياهو
كفرصة عملياتية نادرة الحدوث ، كحالة إغتيال حسن نصر الله والحرب مع ايران في أوج
مفاوضات كانت تجري معهم ، وهل يستطيع أن يقنع أحدا بإن طائرات بنيامين نتياهو قد
قطعت 1800 كيلو متر فوق كل هذه الأجواء دون إذن عمليات مسبق من القيادة الوسطى
الأمريكية ، وما هو تفسير صمت المضادات الإعتراضية بكل طبقاتها في قاعة العديد التي
تغطي الف كيلو متر عن مكان الضربة .
يعقد رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها مؤتمرا صحفيا بتأخير
أكثر من ثلاث ساعات عن موعده ، وبكلمات مختنقة ، لم نسمع أي منها بعد سبعون الف
ضحية ومائة وسبعون الف مصاب ودمار بلد بأكملها ، وهيام إثنان مليون إنسان على
وجوههم ، عن المروق والعربدة والنرجسية لصاحب الفعل ، فلم نسمع عن التعهدات
الأمريكية بعدم إستهداف اسرائيل لقيادات حماس على أراضيها ، مجيبا عن سؤال بتلقيهم
إنذارات أمريكية عن هجوم وشيك ، فيجيب بإنهم تلقوا هذا الإنذار بعد سماع دوي
الإنفجارات بعشرة دقائق ، أما عن سبب عدم عمل الدفاعات الجوية للتصدي للأهداف
المعادية ، ليعيد الحديث عن فعاليتها بالحالة الإيرانية أما في مثل هذه الحالة
فبسبب إستخدام إسرائيل أسلحة حديثة فهي لم تعمل ، خجلا من أن يقول على الملأ بإن
قرار تشغيلها من عدمه ليس بيدهم وقد عطلها صاحب السيادة الحقيقية على الأرض ، بأمر
عمليات مسبق قبل إنطلاق الطائرات الإسرائيلية من مرابضها ، وباتت شاشة غرفة العمليات
بيضاء اللون لا تسوى ريالا واحدا ، وما هو مصير تريولونات الدولارات التي جمعها
دونالد ترامب قبل شهور ، وعليها رذاذ المسك وطائرة أحلام رئاسية .
قبل أيام فقد أعاد دونالد ترامب تدوير زوايا محددات بنيامين
نتياهو الخمس ولمن لا يتذكرها فهي ، نزع
سلاح حماس ، إخلاء سبيل الرهائن الإسرائيليين ، قطاع غزة خالي من السلاح ، سيطرة
أمنية إسرائيلية على قطاع غزة ، حكم مدني لا يتبع حماس ولا منظمة التحرير
الفلسطينية ، ولهذه الغالية بدأ الدفع بالقوات الى أطراف عمق مدينة غزة ، وحرب على
الأبراج كرمزيات للمجتمع الحضري في غزة بما أطلق عليه عربات جدعون 2 ، وأدار ظهره
لمبادرته الشخصية التي أطلق عليها مبادرة ويتكوف ، لوقف نار مؤقت وإطلاق نصف
المحتجزين في غزة ، بعد ثلاثة شهور من مفاوضات مضنية وضغوطات هائلة قام بها
الوسيطان المصري والقطري على حماس للموافقة عليها ، وتكلفة بشرية ومادية هائلة
تكبدها الشعب الفلسطيني خلال تلك الفترة ، أما في هذه الجولة فأن تبدأ جولة جديدة
وأنت خالي الوفاض من مسار سياسي ، فهذا من شأنه أن يعقد المهمة لسبب أساسي يتعلق
بالداخل الإسرائيلي ، وثانوي يتعلق ببقية العالم والمهتمين ، فالداخل الإسرائيلي
بغالبيته قد ضاق ذرعا بوعودات بنيامين نتياهو بتحقيق النصر الحاسم وتحقيق أهداف
الحرب ، ووعودات دونالد ترامب لذوي الأسرى بإخراجهم من فم الموت ، وجيش منهك بعد
إثنان وعشرون شهرا من حرب متواصلة على عدة جبهات ، بات التململ لا يخفى على تلمسه
من قبل قادة الفرق والكتائب والألوية ، أما بقية العالم فيلزمه قليل من ذر الرماد
في العيون بإن شيئا من السياسة يواكب العمليات الجارية على قدم وساق ، فهناك
مبادرة مبادئ عامة قد عرضت على حماس من رأس السياسة الدولية دونالد ترامب شخصيا ،
قوامها إخلاء سبيل 48 رهينة حيا وميتا في اليوم الأول لوقف إطلاق النار ، وقف
إطلاق نار مستدام طالما كان هناك مفاوضات تجري حول ترتيبات دائمة لإنهاء الحرب
بضمانات شخصية من دونالد ترامب ، بشكل مختصر وواضح غاية الوضوح ، أسرى مقابل أسرى
وهو الشيء الوحيد المؤكد والتي يمكن لحماس التحكم به وضبط إيقاعه نسبيا ، والذي
يتطلب أيضا أسابيع من المفاوضات حول الأسماء والمعايير ، والفيتو الإسرائيلي في
هذا الشأن لناحية الأسماء وفحص الجثث والتي سيكون
قسم منها قد فقد الى الأبد بفعل العمليات العسكرية وتغير شكل المناطق أيضا
، وهو لوحده سيكون سببا أكثر من كافي للإنقلاب على الإتفاق وعودة الحرب سيرتها
الأولى ، على إعتبار أن خللا قد حدث في الإتفاق من قبل حماس ، ولا ضير في أن يبتلع
دونالد ترامب ضماناته ، بل وتبني وتسويق سردية بنيامين نتياهو .
ركل دونالد ترامب الوسطاء العرب وإنبرى لصفقة مباشرة مع
حماس بأدواته وعرابي سياسته ، بطلب شخصي من بنيامين نتياهو ، وتحذيره الأخير لحماس
لإن هذه المبادرة ستكون الأخيرة ، وبشكل موازي يصعد كاتس بالقول صبيحة أمس الثامن
من سبتمبر ، ستهتز اليوم أبراج الإرهاب في غزة ، وعلى حماس إطلاق سراح الرهائن
وإلقاء السلاح ، وهو التحذير الأخير لها ، وما بين تحذير سياسي أخير وآخر عسكري
أخير ، باتت حماس كمن بلع منجل ، لا هي قادرة على إبتلاعه ولا هي قادرة على إخراجه
من جوفها ، فإن قالت نعم فالنتيجة معروفة سلفا فبعد الدخول في مارثون تسليم
الرهائن والجثث بأيام معدودات فالحرب عائدة سيرتها الأولى ، وأن هي قالت لا فها هي
الحرب تتصاعد بمزيد من الموت والدمار ، وأن هي قالت لعم ، فعداد الموت يمضي قدما
حتى تأخذ خيار بنعم أم لا ، ففي كل الحالات دخلت ومعها إثنان مليون ونصف غزي في
الجدار ، وعلى أغلب التقديرات فستمضي بالحرب قدما الى منتهاها ، فما بقي شيء من
الممكن المراهنة عليه ، فحتى الوسطاء التي كانت تراهن عليهم لخلق بعض التوازن فقد
باتوا شيئا من الماضي .
مئات الالاف من الغزيين يتم الدفع بهم رويدا رويدا غرب
مدينة غزة نحو شاطئ البحر المطوق أصلا كونه مانع طبيعي عدا عن السيطرة البحرية
للزوارق الإسرائيلية ، عمليات الإحاطة من
الشمال والجنوب والشرق تجري على قدم وساق ، تدمير المباني والبنى التحتية لا يتوقف
، هي مسألة وقت فمنفذ شارع الرشيد المفتوح حتى الآن والمسموح المرور به بلا تدقيق لن يبقى كذلك طويلا ، وأمام مشهد قاتم من هذا
القبيل فهناك ثلاثة خطط جاري العمل عليها ، أولاها تقليص الأعداد المزدحمة الى
الحد الأدنى في هذه المنطقة بضغط إنعدام سبل الحياة والدفع بهم تحت النار نحو
الجنوب ، ثانيهما إخراج من تبقى بالقوة بعد إحكام التطويق والبدء بالفرز للنساء
والأطفال والمسنين والرجال ومن هم في سن الإعتقال ، وهو ما حدث سابقا في عدة مناطق
وعدة مرات ، ثالثهما إرتكاب مجزة كبرى في المكان لمن يصر على البقاء في المكان
بإعتباره جزءا لا يتجزأ من الحاضنة الشعبية لحماس ، أما الخيار الذي لا تتوفر عليه
أدلة كافية حتى الآن ليكون جزءا من تحليل المشهد ، فهل باتت هذه الكتلة البشرية
المتبقية هي المستهدفة لعملية تهجير قصري الى خارج القطاع ، عبر عبارات بحرية تم
التعاقد عليها سرا بين الولايات المتحدة وإسرائيل مع إحدى الدول أو أكثر ، وهو ما
ستكشف عنه الأيام القادمة .
لم يعد خافيا ولا بحاجة الى كثير من الشواهد لإثبات حجم
ومدى التواطئ الأمريكي بين دونالد ترامب وبنيامين نتياهو ، فهما وجهان لعملة واحدة
وأن سياسة التخادم ما بين الرجلين وما يمثلان في الداخل الأمريكي والسياسات الشرق
أوسطية أملته مصالح مشتركة عميقة ، فما كان دونالد ترمب ليتلقى كل هذا الدعم في
الإنتخابات الأمريكية الأخيرة لولا أن رمى بنيامين نتياهو ولوبيات الضغط اليهودية
للتحشيد له بالمال والإعلام ، وأن الأثمان التي يسددها ترامب له ، فهي ليست منحة
بل هي لقاء صفقة سياسية واضحة المعالم ليست بحاجة الى كثير من البحث والتنقيب ، فيكفي
أن تقرأ تصريحات مريام أديلسون وستعرف باقي الحكاية ، فلا إنفكاك ما بين الحالتين ،
فهما في سدة الحكم بفعل حالة التخادم في المصالح بين الرجلين كحالتين شاذتين في
النظام السياسي في البلدين ، وأن أي تحليل سياسي يمكن أن يقول بإن دونالد ترامب له
سطوة وقدرة على التأثير على بنيامين نتياهو لو أراد ذالك ، فهو يجافي الحقيقة ،
فالعكس هو الصحيح فمستقبل دونالد ترامب السياسي والشخصي بغالبية أوراقه في يد
بنيامين نتياهو وهذه حقيقة بات يعرفها الكثير من هم في أروقة صناعة القرار
الأمريكي والذين بغالبيتهم مولوا حملاتهم الإنتخابية من أمبراطوريات المال اليهودي
النافذ في الولايات المتحدة .
بات الوقت
متأخرا كثيرا ، لقد نجح بنيامين نتياهو بإستدراج حماس للجلوس على طاولة التفاوض ، ومفاوضتها
نيابة عن غزة وسكانها ومستقبلها ، ونجح في عزل الموقف العربي الموحد الذي وفر لحماس
سلم للنزول عن الشجرة بشكل آمن وبأقل الخسائر المحتملة ، وهو بهذا سهل مهمته في
إدارة الصراع وإعطاءه كل أسباب إطالة الوقت الذي هو بحاجة له بشدة ، وذالك
لإعتبارات سياسية داخلية وشخصية أيضا ، فلم يبقى للعرب الكثير ليفعلوه وحتى إن
إقتنعت حماس اليوم وبعد أكثر من سبعمائة يوم من الحرب بالرؤية العربية وقرائتها
للأحداث ، فالمتغيرات على الأرض باتت هائلة وهي بإتساع وليس على النقيض من ذلك ،
فليس عبثا أن وجه رئيس الوزراء القطري كلامه لحماس قبل الضربة الأخيرة بضرورة
التعاطي بإيجابية مع مبادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، وهو يعرف تماما بإنها
عبارة عن لعب في الوقت الضائع ، ولكنها وبعد هذه الضربة للأراضي القطرية وتغييب من
يفترض أنك تفاوضهم فلم تعد لعبة في الوقت الضائع فحسب ، بل مسرحية مميتة تكتب
فصولها بالدم والموت والمعاناة .
تعليقات
إرسال تعليق