دولة الإستعصاءات الأصولية
عندما تفشل كل وسائل التبريد ، لوقف تمدد ألسنة اللهب
وسط غابة قد إشتعلت بها النيران ، وقبل أن تتمدد الى أجزاء أخرى قابلة للإشتعال
لكثرة ما فيها من أسباب لإشتعالها ، فما عليك سوى إشعال حرائق مسيطر عليها لوقف
تمددها ، وفق مبدأ مكافحة النار بالنار منعا لتمددها ، هذا ما أنتجته علوم مكافحة
الحرائق ، وعلى نفس المبدأ ينبري مائة وتسعة وخمسون إطفائي من كل الجنسيات تم
تحشيدهم حصيلة جهود فرنسية سعودية وشركاء
كثر أشعلوا حرائق صغرى في محيط الحريق الكبير المشتعل منذ عامين والقابل للتمدد ، ليطال
مناطق ومصالح شيدت بجهود مضنية لسنوات قد مضت ، كان يخال من شيدها بإنها عصية على
أن تطالها النيران ، فمن كان يظن يوما بإن عاصمة إحتضنت قاعدة العديد ستتعرض خلال ثلاثة
شهور الى هجومين من عدوين لدودين ولسببين مختلفين ، ومن كان ليتصور بإحتشاد الجيش
المصري على حدوده الشمالية في مقابل حشود إسرائيلية مقابله على الطرف الآخر
بإنتظار شرارة إشتعال قد تأتي في أي لحظة ، من كان يظن أن إتفاقية وادي عربة باتت
آيلة للسقوط في أية لحظة ومعها الإبراهيمية وما ينهما ، من كان يظن أن القاهرة
ستكون موطأ قدم لتوقيع إتفاق ايراني مع غروسي ، أو أن تشارك القاهرة في مناورات
بحرية مع اردوغان حامي مشروع الأخوان المسلمين العالمي ، من كان يظن بسرعة إنتاج
إتفاقيات دفاع مشترك بين السعودية وباكستان حليفي الولايات المتحدة في مواجهة حليف
آخر له كامل حظوتها ، قد يحلو للبعض بنسب كل ذلك الى السنوار في
أحداث طوفانه في السابع من أكتوبر ، وقد يحلو للبعض بنسبه الى بن غفير وسموتريتش
قبل ذلك بشهور وما إقترفته يداه في الشيخ جراح والأقصى وحوارة ، وقد يذهب البعض
الى أبعد من ذلك قليلا بنسبه الى دونالد ترامب والمسيحية الإنجيلية بتحالفهم مع
بنيامين نتياهو وصفقة قرنهم ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية جهارا نهارا ، ولكن
ما هو ثابت ومؤكد فإن نسبه يمتد الى ثلاثون عاما قد مضت ، وتشكل ثلاثة إستعصاءات
من ثلاثة أصوليات يهودية إسلامية مسيحيه تحالفت موضوعيا وتخادمت لإنتاج كل هذه
المآسي التي تولدت من هذا الصراع ، لعب بنيامين نتياهو دور المايسترو بها ، فغذاها
ومنحها كل أسباب الحياة ، حرض على قتل رابين ودمر مسار أوسلو ، خلق كل المبررات
لتشكل سردية المحور الإيراني ، أقام تحالف مع المسيحية الإنجيلية في الولايات
المتحدة ، مانعا أي من حكام البيت الأبيض للمضي قدما بأية عملية سلام ذات مغزى ، فكانت
هذه هي النتيجة الطبيعية لكل هذه التراكمات التى أستفاق عليها بنيامين نتياهو
صبيحة السابع من أكتوبر والممتده منذ عامان قد مضيا ، وبدلا من محاصرتها في حدود
الممكن ، ومعالجة آثارها موضعيا ، نقلها الى سبعة جبهات كما يحلو له تسميتها ، لم
يستطع حسم أي منها على الإطلاق رغم كل ما أنجزته آلته العسكرية قتلا ودمارا ، وفوق
كل ذلك فقد كان الحصاد الأكثر مرارة هي حالة من العزلة الدولية الغير مسبوقة
وخسارة لأكبر الداعمين لهذه الدولة ، إسبانيا فرنسا بريطانيا كندا إستراليا والحبل
على الجرار كما يقولون ، وإقتصاد بات يأن إستنزافا ليتهاوى في نهاية المطاف ،
ومشهد سيكتب حوله الكثير لمغادرة أكثر الوفود لقاعة الجمعية العامة حين إعتلى
منبرها في محاولة لتبرير ما أفسدته يداه ، فبكلمات قليلة سبقتها " لا تخشوا
التهديدات الإسرائيلية لمنعكم من الإعتراف بالدولة الفلسطينية " فبهذه
الكلمات دشن أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة البرتغالي الجنسية خلاصة
سبل معالجة الحريق المندلع ، إستباقا لما سيجري على مسرح أضخم التجمعات الدولية
السنوي ، ليدلي قادة العالم بدلوهم حيال قضية أقضت مضاجع العالم لقرن مضى من
الزمان ، فلا سبيل آخر لإخماد النار سوى بالنار .
على مدار يوم كامل وبمقعدين فارغين للولايات المتحدة
وإسرائيل قيل الكثير حول الأسباب الموجبة للقبول أو الإعتراض أو الوقوف في المنطقة
الرماديه للإعتراف بالدولة الفلسطينية ، لا يخلو كل ما قيل بالكثير من المبادئ
والكثير أيضا من المصالح وأسماها ، مبدأ حرية الشعوب بتقرير مصيرها ، سيشتعل الجدل
الدائر ، بين أكثرية ثمانون بالمئة ، لصالح الإعتراف بدولة فلسطينية ، مقابل عشرون
منها بين معارض للمبدأ من أساسه ، ومعارض للتوقيت بإعتباره جائزة للإرهاب ، أو
بإعتباره يخالف فكرة التفاوض الذي من المفترض أن تسبق الوصول الى هذه النتيجة التي
لا إعتراض عليها لناحية المبدأ ، حاول قيصر البيت الأبيض في اليوم التالي إختزال
الحدث بعشرون رهينه لا زالوا محتجزين في غزة ، وعدد آخر ممن قضوا ويزيد عليها عشرا
، ويضيف بأن الإعتراف بالدولة الفلسطينية هو مكافئة لحماس وكأن ما قبل ذلك كان
مقبولا له ، ولفك العزلة عن موقفه البائس مع حليفه بنيامين نتياهو يعقد إجتماعا مع
سبع من الدول العربية والإسلامية لم يرشح عنه سوى أنه كان عظيما ، لا نعرف إن
حدثهم عن التهجير والريفيرا أم لا ، أم أن الحدث كان أكبر مما يمكن قوله في مثل
هذه المناسبة ، فحليفه الأهم غارق في حروب
لا نهايات لها ، ولا يتمكن من أغلاق أي منها حتى الآن ، ومحاصر في شوارع العالم
بطوفان من الكراهية لم يسبق له مثيل ، باتت شظاياها تقرع أروقة السياسة في
الولايات المتحده ، وهناك في ساحة الصراع الرئيسية والجبهة الأهم غزة ، فهو في
مواجهة مع إثنان مليون من البشر يدفع بهم جنوبا الآن ينقب بينهم عن بضعة الاف من
مسلحين ، منخرط في ورشة هدم كبرى لبنيتهم الحضرية ، وورشة بناء كبرى في الضفة
الغربية لتغيير الملامح وصناعة المعازل ، لا زالت جميعها في محصلة الواقع تساوي
صفرا ، فالمغادرين لدولة إسبارطة يفوق القادمين بعشرات الأضعاف ، أما في دهاليز
صناعة السلام الترامبية فقد فضحها أحد عتاة اليمينية الصهيونية سموتريتش قائلا ،
بإن على طاولته مشروع صفقة عقارية كبرى لإقتسام غنائم حرب الأسطوره ، لم ينفها ولم
يؤكدها ، وهو أصلا صاحب الفكرة الأساس لها ، فكيف سيتمكن من صياغة بيان سياسي
للعالم بأسره من على منصة الشرعية أن يتفوه به ، إذن لا بد من خطاب يرتكز بجوهره
على إرتكابات يوم السابع من أكتوبر الذي إطلع عليها ولم يطلع على قراءة تقرير
الأمم المتحده بإرتكابات عامان من حرب الإبادة للبشر والحجر ، فهو لا تسوى إضاعة
الوقت بكل ما فيها ، أما حليفه والذي يرتكن اليه في كل شيء فلم يعد يقوى على
المواجهة مع معركة خاسرة سلفا ، وسيختار أهون الشرور بإنها مكافئة للأرهاب
متناسيين ثلاثون عاما سابقة من وضع كل العراقيل الممكنه للقيام بمفاوضات حقيقة قد
تفضي للوصول الى حلول ممكنه ، ولكن باتت هذه الرواية بالية الى درجة أن دولا كبرى
كانت تتبنى سياسة المفاوضات التي تفضي الى دولة على قناعة بما يكفي ويزيد ، بإن
حكومات اليمين التي تعاقبت على حكم إسرائيل فعلت كا ما يمكن لمنع حدوث ذلك ، وأن
السابع من أكتوبر لم يكن سببا لكل ذلك ، بل أن السابع من أكتوبر بكل محدثاته يجب
أن يكون حافزا لعدم إستمرار هذا الصراع وعدم تكراره أيضا ، فلا سبيل لصنع سلام
وهدوء مستدام في منطقة الشرق الأوسط دون تقرير حقيقة أمر واقع بإن القضية
الفلسطينية وقفت حائلا دون حدوثه ، فلا تكد تجد صراعا قد نشب في هذه المنطقة وطال
العالم جزءا منه الا وإتكأ الى هذه القضية أيضا ، وأن البقاء في دوامة مفاوضات لن
تصل الى شيء والتي هي غير موجوده أصلا ما هي الا ملهاة جديدة لم يعد غالبية العالم
على إستعداد للإستماع لها بكل الأحوال .
مما لا شك فيه بإن الإعترافات بالدولة الفلسطينية التي
سبقت السابع من أكتوبر والتي شارفت على مئة واربعون دولة شيء وما بعد السابع من
أكتوبر والذي رفع عددها وصولا الى مئة وتسعة وخمسين دولة شيء آخر ، فهي بغالبيتها
من دول الإتحاد الأوروبي ودول الكومنولث التي تتبع التاج البريطاني ، ولها من
الثقل السياسي والإقتصادي والرمزية ما يساوي الكثير ، بإعتباره تصحيحا لخطأ تاريخي
تأخر لأكثر من ثلاثين عاما قد سبقت ، وأن أحداث السابع من أكتوبر وكل مجريات
العامين الماضيين قطعت الشك باليقين بإن لا سلام وإستقرار في هذه المنطقة دون
إغلاق هذه الفجوة والمظلومية التاريخية
لشعب يكافح منذ قرن لنيل حريته ، ولكن ووصولا الى نهايات لهذا الماراثون
الطويل والدامي ، فإن الطريق فيها الكثير من الإستعصاءات واجبة التعامل معها بمزيد
من الخطوات والضغوطات من قبل مئة وخمسون دولة بشكل منسق لإخراجها الى حيز الوجود ،
ومن أبرزها ما هو آت :ـ
·
أصولية
دينية يمينية متطرفة في أسرائيل باتت تحكم أيضا ولم تكن بالهامشية التي كانت عليها
في إبان توقيع إتفاق أوسلو حين أقدمت على إغتيال رابين في وسط كبرى الميادين في تل
أبيب ، وبات خطابابها أكثر إتساعا ما قبل السابع من أكتوبر وإنتقل هذا الخطاب
ليلامس شرائح كانت في المنطقة الرماديه في كل من أحزاب اليمين والوسط وحتى أطراف
بعض اليسار أيضا ، فلا تكاد تجد في إسرائيل من هو على إستعداد لمناقشة الفكرة
أساسا ، رغم قناعة جزء مهم منهم أيضا بإن البدائل التي يقدمها هذا الإتجاه لا
مستقبل لها ولا يمكنها الحياة أيضا ، وأن االأفكار التي يتبناها غالبية العالم
بحاجة الى تغييرات واسعة النطاق تؤدي الى تفكيك حالة الإستعصاء الراهنة قوامها
مساس واسع النطاق بالمصالح الإقتصادية لهذه الدولة وحالة الرفاه والبحبوحة
الإقتصادية التي إعتادوا عليها تؤدي الى تفكيك هذه التحالفات التي تمكن بنيامين
نتياهو من نسجها في ظل وفرة إقتصادية أتاحت له بسهولة من تقديم الرشى السياسية .
·
أصولية
مسيحية يمينية متطرفه في الغرب عموما وفي الولايات المتحده على وجه الخصوص ، وهي
باتت الداعم الأساسي لوصول دونالد ترامب الى الحكم ، وهي التي لا تعترف أصلا بوجود
شيء أسمه فلسطين ، وهم باتوا المكون الأساسي في إدارة دونالد ترامب ، وقد نسج
بنيامين نتياهو تحالفات معهم حتى بات التمييز بين مواقف لوبيات الضغط اليهودي وهذا
المركب المسيحي الإنجيلي في غاية الصعوبة ، ومن النماذج الصريحه على ذللك مارك
هكابي السفير الأمريكي في إسرائيل وهو القسيس المسيحي المعمداني الصهيوني فمواقفه
العلنية الغير مستترة على الإطلاق لا تكاد تميزها عن مواقف الصهيونية الدينية في
إسرائيل ، ومن نماذجها الساطعة سموتريتش وبن غفير ، فلا فرق يذكر لناحية
الأيدلوجيا الا من بعض الرتوش لناحية التوقيتات وفجاجة التعبيرات السياسية التي
إتسم بها الأخيران ، وهو إستعصاء بحاجة الى موقف موحد من هذه الدول المائة والتسعة
والخمسين لمخاطبة دونالد ترامب كرأس لهذا التوجه بلغة المصالح التي لا يعترف
بسواها فإما خسارة العالم بأسره ، أو البقاء في فلك هذا الفكر الذي لا يعترف
بالآخر ، فلم يعد لديه الوقت الكافي لممارسة المزاوجة والتضليل لصالح بنيامين
نتياهو وكل سياساته ، فحادثة الإعتداء على قطر ومنع الرئيس الفلسطيني من التواجد
في هذا المحفل الدولي قد قالت كل شيء .
·
الأصولية
الإسلامية ممثلة بالإسلام السياسي وهو الخارج للتو من معركة خاسرة بكل المقاييس ،
إبتداءا بحماس في قطاع غزة مرورا بحزب الله في لبنان وصولا الى طهران وما بينهما
من قوى أقل تأثيرا ، وهو الذي بنى سرديته
على نظرية إزالة إسرائيل من الوجود ، والتي إتكأت اليها وتخادمت معها الأصولية
الدينية في إسرائيل والأصولية المسيحية في الغرب عموما وفي الولايات المتحدة على
وجه الخصوص طيلة الثلاثين عاما الماضية ، فالتهديد الوجودي اللفظي لإسرائيل بات من
الماضي وسقطت معه قدرة إستخدامه مجددا من الناحية الواقعية ، الا أن هذا التيار
والذي بات أحد إشتراطات العالم مسبقا في ديباجة الإعتراف بالدولة الفلسطينية
ليتنحى عن المشهد ، فهو نظريا وإن تساوق مع تأييد فكرة الدولة فهو بلغة الواقع لن
يسلم بتلك السهولة لخروجه من المشهد صفر اليدين ، وسيعود الكرة بشظايا وجود ليتربع
في المشهد كأحد اللاعبين ولو أعاد فكرة التخادم لحيز الوجود مجددا ، رغم المأسي
والدمار الذي تسبب به على مدار عامين ، فليس من قبيل الصدفة أن يرفض حزب الله
تسليم سلاحه للدولة وهو أكثر العارفين بسقوط فكرة حماية هذا السلاح للبنان أمام
الإعتداءات الإسرائيلية اليومية فهو يتخادم مع إسرائيل بشكل واضح لا لبس فيه
فإسرائيل تتذرع بوجود السلاح بين يديه كمبرر لعدم الإنسحاب وهو يتذرع بعدم
الإنسحاب الإسرائيلي كمبرر للإحتفاظ بالسلاح
وهكذا دواليك ، وكذا الحال بالنسبة لحماس فلا تسليم للسلاح قبل إقامة دولة
فلسطينية أما بالنسبة للإسرائيليين فلا وقف للحرب قبل سحب سلاح حماس ، وليس
الإيرانيين بأحسن حال فهم الغارقون فى فوضى برنامجهم النووي لن يسهلوا مهمة العالم
بوقف دعم هذه الحركات قبل إيجاد تسويات لملفهم النووي وهو الذي تخادم مع إسرائيل
شاءت إيران أم أبت .
خلاصة القول :ـ
باتت مصداقية العالم على
المحك فلم يعد كافيا إطلاق المبادرات وإنتظار كرم قادة إسرائيل بالتجاوب معها ،
فلديها الكثير من الأوراق التي تلعب بها ، وحتى يكون القطع باتا مع هذه المحاولات
فلا بد من صياغة مبادرة تنأى عن العموميات لصالح التفاصيل والتوقيتات ، بمعنى أن
الفكرة التي أطلقها العرب عام الفان وإثنان والتي لا زالت موضوعة على الطاولة
إفتقدت الى الأليات التنفيذية والتوقيتات ووسائل الضغط لقبولها من الطرف الآخر ،
فلا يعقل أن تبقى لإسرائيل القدرة على الإحتفاظ بحق الفيتو بدعم مطلق من الولايات المتحدة ، وتطالبها بتقديم
التنازلات ، فحين تشعر بإن مصالحها ومعها مصالح
الولايات المتحدة باتت على المحك فحينها سيكون التغيير والتقدم نحو الخروج
من حالة الإستعصاء الراهنه ، فلا يكفي مثلا أن يقال لدونالد ترامب في الإجتماع
المزمع مع بعض الدول العربية والإسلامية على هامش إجتماعات الأمم المتحده هذا
رأينا وكفى ، بل هذا رأينا متبوعا بإن لم يكن مقبولا فإن كل شيء بلغة المصالح والنفوذ
سيتغير ، وحينها فقط فسيرى العالم ما كان للعرب من موقف شجاع ولمرة واحدة ، وسيتبعونهم
بخطوات داعمة ..... والا فسنبقي على حالة المراوحة بالمكان ، كسيدة للموقف .
تعليقات
إرسال تعليق