القائمة الرئيسية

الصفحات

 





عبث افتراضي وواقعية لا ترحم

يقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه " إياك ولو فإنها مفتاح عمل الشيطان" فهي تغذي الندم والعجز بدل الفعل والإصلاح "

"لو" هو حرف شرط يفيد أمتناع الجواب لإمتناع الشرط (امتناع لإمتناع) ، تحسر وتمني ، صراع بين الإفتراض العقلي والمجازي ، إحتجاج لإظهار المآلات ، حرف معلق بين الواقع والإحتمال ، بين الوعي والخذلان ، لا تدخل الا على أفعال باتت ماضيا ، تطرق بابها بأدب كاذب ، عبث عقلي وإجترار ذهني بما لا يمكن إصلاحه ، وهم متأنق يرتديه العقل لعجزه عن مواجهة الحقائق على الأرض ، حنين متنكر بلباس الحكمة لطريق لم يعد موجودا ، خيانة للعقل الجمعي ، كأن التاريخ رقعة شطرنج قابلة للعودة الى ما كانت عليه ، انها إعادة تدوير للألم وكأن الكارثة كان يمكن تفاديها ، إنها إحتماء من وجع الواقع حين نعجز عن تغييره ، كتابة للأحداث بدم لا يجف ، وهي أكثر الحروف خيانة في الحياة كما في السياسة .

عامان بكل مآلاتهما الكارثية ، ولا زلنا ندور في ذات الحلقة الجهنمية ، بين كنت أعرف وبين لو كنت أعرف ، وما بين هذا وذاك ، فنحن ذاهبون كرها أو طوعا الى متاهة لا تنفك من التراشق بالتهم ، حقائق باتت ماثلة أمام أعيننا على الأرض ، لا ينكرها الا من به مس من جنون ، نتحايل لتطويع مفردات اللغة عن سبق إصرار وترصد ، لتبرير عدم القدرة على مواجهة كل ما إستجد ، نتسابق لصناعة مفردات لتجميل الكارثة التي ألمت بنا ، من قبيل رب ضارة نافعة ، أو عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وهكذا نبدأ بصناعة السرديات بدم لا زال يتدفق ، لا أحد مستعد للتراجع عن أي مما تم فعله ، فلو الإحتلال ولو الخذلان ولو الدعم اللامحدود للعدو حاضرتان في المشهد ، نعلق عليهما كل هذا الفشل والتردي .

حجر الزاوية في كلية المشهد هي خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط ، ولم يبقى من أدوات الفعل على الطاولة سواها ، لإعتبار واحد لا غير ، بإنها تمكنت من إيقاف القتل والدمار بالجملة ، والتحول للقتل والدمار بالتجزئة ، تقف بين حديها الأزرق والأصفر ، بضعة جثث لا زالت عالقة كأحد الأوراق الرابحة ، فلا أهل الطوفان مستعدين للإفلات بها ، ولا حكومة الأساطير مستعدة للإفلات بها كذلك ، فهي كنز لأهل الطوفان للدخول للدوري من الدرجة الثانية بآخر ما تبقى من أوراق قوة ، وحكومة الأساطير تعلي من شأنها بإعتبارها متراس طبيعي لعدم الدخول لدوري من هذا القبيل ، فتحقيق الأهداف العليا للحرب لم ترسم حدودها بعد ، أوكما ينبغي لها أن تكون ، تتزاحم جهود الوسطاء بالمساعدة للمضي قدما ، ولم يجب أحدا إن كان كلا طرفي الصراع جاهز لدفع إستحقاقات الدخول للدوري من الدرجة الثانية من الأصل .

خرق بخروقات بدأت تطل برأسها مجددا ، فلم يكد الناس يصحو من هول ما يدور حولهم ، حتى باتت الرؤى في فهم الخطة ومآلاتها تشتبك بتصريحات علنية ، بين الممكن وغير الممكن ، أما من سميت المبادرة بإسمه فهو يتخبط بالتصريحات وما يناقضها ، ليضفي على المشهد غموضا على غموض،  والذي أرادوا له أن يكون بناءا ، مما سيحيل الخطة شاء أهلها وصانعيها ولاعبيها  أم لم يشاءوا ما بين عبث إفتراضي وواقعية لا ترحم ، ستفرض نفسها شاء من شاء وأبى من أبى .

دخل الفلسطينيين والإسرائيليين مكرهين تحت مظلة الوصاية الدولية ، فبعد كل هذه السنوات من صراع الحق والقوة ، بات الراعي الأمريكي والممسك بالمفاتيح الكثر للدفع بهم الى منطقة الوصاية ، غير قادر على التمييز بين كل هذه المفاتيح فيخلط أحدهما بآخر ، عدا مفتاح الشرعية والقانون الدولي ، وهو أول مخترقيه حين إعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ، واعترف بضم بالجولان لإسرائيل أيضا ، تاركا الباب مشرعا لكل التفسيرات ، فما من عنوان يطرقون بابه الا وتجد من التفسيرات والتأويلات ما يؤشر الى التعقيدات القادمة ، وفق تسلسلها البروتوكولي والمنطقي ، وحتى الخارج عن المنطق ايضا ، نوجزها بأسئلة لا زالت عصية على الإجابة حتى الآن :ـ

·         كيف يفسر أطراف الصراع والوسطاء والقوى الدافعة للإتفاق ، الإنتقال من مرحلة تبادل الأسرى والجثث الى المرحلة الثانية ، فما بين التمترس الإسرائيلي بعدم الإنتقال من واحدة الى أخرى حتى تسليم آخر جثة ، وما بين موقف حماس بإحتمالية عدم العثور على بعض الجثث ربما لسنوات ، ولا يمكن الإنتظار حتى حل هذه المعضلة ، وموقف الوسطاء بكيفية المزاوجة بين المرحلتين ؟

·         تشكيل القوة الدولية فهي جاءت مبهمة وتدور حولها إسئلة لا تنتهي فمن سيشكلها وما هي مرجعيتها وما هي صلاحياتها ، ومن سيشارك بها ففي حين يراها الإسرائيليين محصورة المهام بالإشرف على سحب سلاح حماس وهدم الأنفاق والإشراف على بناء قوة شرطية مدنية ، ولا شرعية دولية لها وهي صاحبة الحق الحصري بالإعتراض على أي دولة ستشارك بها ، فيراها الفلسطينيين بإنها قوة للفصل بين الجانبين على حدود غزة بمرجعية وقرار صادر عن الأمم المتحدة ، وكيفية المزاوجة ما بين هذا وذاك كما يراها الوسطاء وكيفية تذليل كل هذه العقبات التي لها أول وليس لها آخر ؟

·         أما سلاح حماس وفصائل المقاومة فهي العقبة الكأداء ، فما بين تعريفه بالسلاح الشرعي المقاوم للإحتلال والطريقه الوحيده لتسليمه هو إقامة دولة فلسطينية وجيش فلسطيني موحد كما تراه حماس ومعها بقية الفصائل ، وما تراه إسرائيل بضرورة نزعه بالكامل من قبل القوة الدولية والا فستقوم هي بنفسها بهذه المهمة ، وما بين الأراء المتعددة للوسطاء بتسليمه الى جهة عربية دولية لحين تشكيل حكومة فلسطينية تشرف على حكم قطاع غزة ، والكيفية التي يمكن معها تجاوز هذا الإستعصاء إبتداءا بتعريفه وكل تفاصيله وتعقيداته أيضا ؟

·         هيئة إدارة الحكم في غزة ففي حين يراها الإسرائيليين بإقتصارها على الأمور الحياتية وأن لا صلة لها بحماس ولا بالسلطة الوطنية الفلسطينية ، وضرورة حصولها على موافقة مسبقة من إسرائيل وأن لا صلاحيات أمنية لها على إعتبار أن الأمن هو مسؤوليتها حصرا ، وبين موقف حماس وبقية الفصائل بإعتبارها هيئة حكم كامل الصلاحيات يتم تشكيلها بتوافق فصائلي ، وبين موقف الوسطاء بشتى الرؤى ما بين ربطها بالسلطة الفلسطينية وبصلاحيات موسعة ، وبين ما يقترب من الموقف الإسرائيلي ، وكيفية التعامل مع الموقف المفتوح على كل الإحتمالات ؟

·         إعادة الإعمار هي مسألة بالغة التعقيد ، فما بين أنها في ذيل الإهتمام الإسرائيلي بعد كل ما تقدم من إستعصاءات ، وأنها حصرا بيد هيئة الإشراف الدولي والإشراف الإسرائيلي على كل ما يدخل ويخرج من غزة وما بين أنها من صلاحية هيئة الحكم المحلي ومعابر مفتوحة ليست تحت السيطرة الإسرائيلية ، وموقف الوسطاء المفتوح على شتى التوجهات فكيف السبيل للتجاوب مع كل هذه التحديات ؟

إجتمعت الفصائل الفلسطينية بالقاهرة بلقاءات ثنائية مع مدير المخابرات الفلسطينية ، وبلقاء موسع مع بعضهم البعض ، عدا الممثل الشرعي والوحيد المعترف بها عربيا ودوليا ، أصدروا بيانهم والذي يوحي بمدى إنفصالهم عن الواقع ، وكأن لا مبادرة موجودة على الطاولة ، أعقبها لقاء لخليل الحية على قناة الجزيرة وبنفس المستوى من الإنفصال عن الواقع ، ولا يخلو الأمر من سلسلة تصريحات لبنيامين نتياهو وأركان حكمه ، وسلسلة تغريدات على تروث سوشيال لدونالد ترامب ، والكثير من الوسطاء على نحو وآخر ،  جدل ونقاش بيزنطي عقيم وكأن المتداولين بهذا الشأن يتحدثون عن ثلاثة عوالم وربما أكثر لا صلة لها ببعضها البعض ، وكل يتحدث بالأماني الغير متصله بالوقائع السياسية التي فرضتها أحداث عامان قد مضيا . 

خلاصة القول :ـ

حلقة مفرغة يدور فيها العالم حول حقيقة أساسية باتت معروفة للقاصي والداني بإن هذه المبادرة لا تصلح سوى كونها خطة لوقف إطلاق النار وتبادل أسرى وجثامين ، ولا تصلح للتجاوب مع قضية عمرها قرن من الزمن ، فالطريق الذي رسمه العالم عدا أسرائيل وحليفتها المولايات المتحدة ، هو ضرورة إيجاد حل جذري لهذه القضية ، والذي عبرت عنه المملكة العربية السعودية بشكل واضح وصريح ، منذ قمة فاس عام 1981 مرورا بمبادرة الملك عبد الله عام 2002 وحتى المبادرة السعودية الفرنسية 2025 ، ولهذا فقد أخذت المملكة العربية السعودية  مسافة من كل ما يجري من نقاشات ومداولات ، ليقينها بإنها لن تفضي لشيء سوى إطالة أمد معاناة الناس والعودة لمسلسل القتل والتدمير مجددا ، وليس مستبعدا على الإطلاق إبقاء الأوضاع على حالها لسنوات قادمة ، فلا إسرائيل جاهزة لعملية سلام ذات مغزى ، ولا الفلسطينيين مستعدين لتقديم أية تنازلات بعد كل هذه التضحيات الجسام ، كما أنه لا يوجد قوى دولية قادرة على فرض حل جذري يستأصل جذور هذا الصراع وفق قرارات الشرعية الدولية ، وهي الغائب الوحيد عن هذه المبادرة ، وحتى ذلك الحين فستبقى لو سيدة المشهد وبلا منازع .             

 

تعليقات