إذا
لم تستطع تحمل الحرارة فأخرج من المطبخ
مقولة تنسب للرئيس الثالث
والثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية هاري ترومان ، تناسب ما يطبخ اليوم للفلسطينيين
ومستقبلهم ، تتخذ من مجلس الأمن موطأ لها ، لا ليكون مرجعا لما يتمخض عنها من
إجراءات تنفيذية ، بل ليكون مظلة لها لتمرير هذه المشاريع ، تنسج بعناية في دوائر
صنع القرار الأمريكي والإسرائيلي أولا ، وتعرض تاليا على الوسطاء ، ولا بأس
بإستطلاع آراء الممثليين الرسميين للفلسطينيين ، وأخيرا بجس نبض حكام أمر واقعهم
في الخارج أخيرا ، عن بعد أحيانا ، أو بإتصالات من تحت الطاولة أحيانا أخرى ، قد
تتطور الى إتصالات مباشرة من فوق الطاولة ، فيسفر مجمل هذا الحراك عن إعادة تدوير
الزوايا لعدة مرات ، بإضافة عبارات وسحب أخرى ، ولكنها في جوهرها تدور حول ثوابت
باتت تفرض نفسها بلغة الأمر الواقع ، عنوانها كارثة غير مسبوقة ألمت بالفلسطينيين
، لم تعد تفصيلاتها بحاجة الى مزيد من الشرح والتوصيف ، بل التلويح بما هو أسوء
والذي لم يأت بعد ، وفي ظل كل ذلك ، تتسابق إستوديوهات صناعة الرأي العام في الوطن
العربي ، لتناول مشروع القرار الجاري تداوله في أروقة السياسة والسياسيين ، وهو
أحد التفرعات العشرين لخطة صانع الأماني والأوهام دونالد ترامب ، يمينا يسارا يغضب
هذا ويرضي ذاك ، ويعيد أرضاء من أغضبه وإغضاب من أرضاه ، وفي خضم كل ذلك ، فثمة من
لا يعجبه الحال والأحوال ، فالهيمنة على القضية التي تبيض ذهبا ، لن ترى النور ما
لم تدفع الأثمان ، فهناك فرصة للمقايضة بنزاعات وإن كانت بعيدة ، فأوكرانيا الساحة
الملتهبة قبل عام من غزة ، تقتضي مشروعا موازيا من الروس أكثر عدالة للفلسطينيين ،
والمصالح الصينية المشتبكة في عديد الملفات مع الولايات المتحدة ، تقتضي رفع الصوت
والتلويح بإيقاف كل شيء ، بدعم المشروع الروسي إن لم يكن هناك تسويات خلف الكواليس
، بهذا المنطق تجري الأمور حتى الساعة .
إنه باكورة أولى الأمور
التنفيذية لخطة دونالد ترامب ، بتشكيل قوة إسناد دولية لدعم الأمن والإستقرار ،
وعلى طريقة البقرة الصفراء ، فما هو شكلها وصلاحياتها وعديدها وعتادها وتواجدها
ومرجعايتها ، تمضي النقاشات طويلا ، بإنتظار الحسم بعد ساعات كموعد مرتقب ، وربما
لأيام أخرى وأسابيع ، أو حتى يخرج أحد من المطبخ بعد عدم قدرته على تحمل إرتفاع
درجات حرارته ، ليقلب الطاولة بدعوى أن الطبخة ستكون بمذاق لا يستسيغه من سيلتهمها
، وبكل تأكيد فالقرار الأول والأخير برؤيتها للنور من عدمه ، هو إسرائيلي بإمتياز
، فمن يبسط سيادته على الأرض بالقوة العسكرية ويتحكم بما يدخل ويخرج من غزة ،
ستكون له الكلمة الفصل بكل النقاشات الجارية ، ومن يتوقع غير ذلك فهو واهم بكل
تأكيد أيضا ، وإن روج لغير ذلك الكثير من الإعلام المضلل ، فليس صدفة أن يتم تسريب
لقاء مرتقب بين ويتكوف وخليل الحية ، وليس صدفة أن يتم تسريب الإمتعاض الإسرائيلي من
هكذا لقاء ، ولكن الحقيقة في عوالم أخرى ، فإن لقاء من هذا القبيل لن يغير في
الأمر شيئا ، ولا بنيامين نتياهو يعترض على ذلك أصلا ، فهو منسق معه مسبقا ، فقد
سبق لويتكوف ولأصحاب الذاكرة القصيرة فقط ، بتقمص أدوار سابقة من هذا القبيل ،
ليعيد الكرة ويحمل حماس كامل المسؤولية عن فشل التوصل للإتفاق ، وهو أمر تم تنسيقه
مسبقا مع بنيامين نتياهو بكل تأكيد ، وإلا ستكون الولايات المتحدة وإدارة دونالد
ترامب ، قد خرجت من جلدها وقامت بتغيير تحالفاتها الإستراتيجية ، وهو الأمر الذي
لم ولن يكون بمطلق الأحوال .
يعزفون سمفونية إصلاحات للسلطة الوطنية الفلسطينية ، والتي قد تفضي الى
منحها شرف المشاركة بحكم غزة ، وقد تفضي الى مسار سياسي ومفاوضات لإقامة الدولة
الفلسطينية ، من ومتى وكيف وأين .....الخ من أدوات السؤال ، فمن هو الذي سيقرر حجم
الإصلاحات المطلوبه وعمقها ، فإن كان دونالد ترامب ، فالأولى أن يقال ، ليدون كل
ذلك على لوح للثلج من الآن ، فهو لا يكاد يمسك على قول لساعات فينقلب عليه ، أما
إن كان بنيامين نتياهو فحدث ولا حرج ، فثلاثون عاما من إدارته للحكم في إسرائيل ،
لم يترك وسيلة لخداع العالم بعكس ما يراه الجميع ، فليس موجودا في مخيلته أي شيء
يوحي بوجود شعب أسمه الشعب الفلسطيني أصلا ، لقد تفرد بأن أدخل الى القاموس
السياسي مصطلحا جديدا أسماه بالإرهاب الديبلوماسي ، واصما أكثر شخصا نبذا للعنف على
وجه الكرة الأرضية (الرئيس الفلسطيني) بممارسة الأرهاب .
لم يعد بخاف عن أي من اللاعبين ، بإن غزة هي خاتمة مناطق نفوذ الإخوان
المسلمين ، ولن تتركها حماس بمطلق الأحوال ، ولن تسلم السلاح بأي شكل من الأشكال ،
وأن مراهنتها على عامل الوقت سيبقى سيد الموقف ، وإن لم ينجح ، فخيارها المفضل هو
البقاء على شظايا حكمها فيما بات يعرف بالمناطق الخربة المكتظة بمليوني فلسطيني
داخل الخط الأصفر ، أما خارجه والذي يتم التلويح به بإن يكون مناطق سيطرة
للإسرائيليين والقوات الدولية ، فهي مستعدة للتسليم بهذا الأمر ، حتى يتسنى لها
إيجاد تسوية للحفاظ على بقاءها كأحد اللاعبين ، فنموذج أحمد الشرع الإسلامي
المطلوب رأسه للولايات المتحدة ، والذي بات يرش بالعطور من قبل رئيس الدولة العظمى
، يستهويها ويسيل لعابها فهم جميعا خرجوا من نفس العباءة ، متناسيين أن أحمد الشرع
يختلف عنهم في شيء واحد ووحيد ، وهو الفيصل للدخول الى بيت الحظوة الأمريكية ،
بإنه لم يرفع السلاح يوما في وجه إسرائيل ولم يناصبها العداء ، فما عدا ذلك فهو
يمكن التسامح معه ، أم هذه فعليها لا كبيرة بشكل قطعي ، وبخاصة بعد أحداث السابع
من أكتوبر .
سيزور الولايات المتحدة الأمريكية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ، وهو
الذي إتخذت بلاده المسافة الأكثر وضوحا من
مآلات خطة دونالد ترامب ، مؤكدة بضرورة مشاركة السلطة الوطنية الفلسطينية في كل
الترتيبات في قطاع غزة ما بعد توقف إطلاق النار ، لتنتهي بإقامة الدولة الفلسطينية
بكل الوضوح والصراحة ، وأن المدخل لتطبيع العلاقات مع إسرائيل هو إقامة الدولة
الفلسطينية ، وأن المراهنة الفلسطينية الأكثر موثوقية دون كل مواقف الوسطاء ،
ستكون على الموقف السعودي للإعتبارات التي تم الإشارة لها .
خلاصة القول :ـ
أصدق مقولة تعبيرا في كل ما يجري
، إنهم يتعلمون البيطرة في حمير النور ، هذا هو حال كبير البيطريين دونالد ترامب
وطواقمه ، ففي مجالسهم تدار القضايا الكبرى كما تدار الألعاب الشعبية ، ضجيج بلا
بصيرة ، ثقة فائضة بلا معرفة ، جرأة بلا أدوات ، فبدل إرتشاف دروس وعبر التاريخ من
ينابيع صافية ، يذهبون الى ظلام السراب ، يسألون من لا يعرف ، ويستشيرون من لم
يختبرون معنى الهزيمة ولا مرارة الصراع ، كأنهم يختبرون الأمن الدولي على مائدة
تجاربهم شديدة الضحالة ، وهكذا تغدو القرارات السياسية أشبه بحظيرة متروكة ، يتنقل
فيها المتطفلون على الخبرة السياسية ، يربطون على جراح لا يعرفون عمقها ،
ويخيطونها بخيوط أكثر وهنا من بيت العنكبوت ، فمن يتعلم البيطرة في حمير النور لا
يملك أن يعالج نزفا عمره أكثر من قرن من الزمن .
تعليقات
إرسال تعليق