القائمة الرئيسية

الصفحات

 





لها من أسمها نصيب

بيت جن ..... هي خلاصة حكاية إسم حين يصبح قدرا  ، إنها ليست مجرد بلدة على سفوح جبل الشيخ ، ولا بلدة نائية ضاع أسمها بين صدى الوديان ، أنها بلدة تحمل في أسمها سؤالا عن الجن في الأساطير ، حراس الأسرار ومفاتيح العوالم الخفية ، وهي المستترة المتخفية بأشجار السنديان ، لم تختر موقعها صدفة ، ولم تختارها الصراعات صدفة ، بل لأنها بوابة بين عالمين ، حين يسمم بنو البشر كل ما يستحق الحياة على هذه الأرض ،  هكذا كانت على الدوام وستبقى .

يهبط الثلج بطيئا وادعا كرسالة سلام ، فيدوسه المتنازعين بأدوات الموت ، يتنازعون تركة لا يمتلكون منها شيئا ، يبحثون عن نافذة تطل على سفوح وهضاب الجولان ، يحضرون أقفالهم وأحقادهم غير آبهين بأهل الدار ، فالجن الذي كانوا يغير مصائر الناس في الحكايات ، يحرك الأشياء من وراء ستار ، باتوا بشرا حقيقيين لا يقلون نزقا وعبثا عما نسجه الحكائيين ، جيوش تتقدم وتتراجع وفق حسابات أبعد بكثير من بيوتها العتيقة وأزقتها الضيقة ، وكأن الأقدار تعيد الى مخيلة الناس ، أن كانوا في حلم مما يعانوه ، أو واقعا لا مفر لهم منه ، بإختيار أو لا إختيار ، فلا صوت يعلو على صوت الموت .

ليست مجرد بلدة ولا نقطة صغيرة على خريطة طمستها الحكايات ، إنها مكان يسيل لعاب العسكريين والإستراتيجيين ، هي بلدة حباها الله بكل ما يستهوي حسابات الأشرار ، تتنازعها المحاور وتخشاها ، كأنها ترفض أن تكون مجرد ورقة تفاوض ، فعراقة تاريخها لا يسمح لها بإن تكون كذلك ، فموقعها عند بوابة الجولان أكبر بكثير من ذلك ، فللجغرافيا والتاريخ ضريبتيهما المستحقتان ، حين تتشابك المصالح وتتضارب ، فتعصف بمصالح الناس وتعايشهم لمئات ، بل لألاف السنين .

بين زمنين ومشروعين وما بينهما من مشروعات صغيرة ، ولاعبين كثر  على الأرض وفي دكة الإحتياط ، يتداول أسمها كمنصة متقدمة ، فهي لأحدهم حاجز آمان وحائط صد عن السيطرة بقوة السلاح ، ولآخر ورقة  لآخر ما تبقى من سيادة ، ولغيرهم هي نقطة تماس متقدمة لمواجهة قادمة كحتمية لا بد منها ، أما أصحاب الأرض ومالكي بساتينها ومراعيها فلا رأي لهم بكل ما يجري ، وفوق كل ذلك ، عليهم الإصطفاف بين خيارين أحلاهما أشد مرارة من نقيضه ، يداعبون مخيلتهم بمشاريع أرض اللبن والعسل ، ليذكرهم الآخر بماض عريق يوم تصدوا للحملات الفرنسية والتركية وكل الماريين من هناك ، فيخترق حدود الصمت أخيرا حكامها الجدد ، من أصحاب الذقون الطويلة ، بإن عيننا بصيرة ولكن يدنا قصيرة ، فقصر الشعب والإنفتاح على العوالم الجديده لها الأولية .

على خط النار بين الخيال والجغرافيا والتاريخ ، ستبقى شامخة بأهلها وماضيها على كتف جبل الشيخ ، فهم زائلون وهي الباقية الوحيدة ، فهي النموذج المصغر لحكاية سوريا من بابها الى محرابها ، بلده تتنازعها قوى ومصالح لا حدود لنهمها ، تقف على حافة المعنى والجغرافيا معا ، لم يختار أهلها بإن يكونوا حراسا على بوابة صراعاتهم ، لكنهم وجدوا أنفسهم هناك بين نارين .... بل بين عشرات النيران ، إقتضتها تبدل التحالفات ، لكن بيت جن تظل أنموذجا لحقيقة واحدة ، بإن بعض الأمكنه ، قدرها أن تتحول الى سطر طويل في كتب التاريخ والسياسة ، وإمتحان للصبر ، وقدرة الناس على التحمل والنجاة ، والا فكيف سيكون لها من إسمها نصيب .

باتت عنوانا لسوريا الجديدة ومآلاتها ، صراع نفوذ وإعادة تموضع للإصطفافات الدولية ، تروق للبعض ولا تروق لآخرين ، قبل عام من الآن ، تهاوى نظام عائلة الأسد بشكل دراماتيكي ، فتغير الحال والأحوال ، وبدأ يتضح شيئا فشيئا عمق تضارب المصالح ، فالخاسرون لن يسلموا حتى الآن بإن نفوذهم على هذه الأرض قد إنتهى ، وحكامها الجدد وبكل إصطفافاتهم ونفوذهم ، لم يتسنى لهم بعد فرض النفوذ على كامل التراب السوري ، رغما عن كل الدعم السياسي والإقتصادي وإزالة كافة المعيقات للمضي قدما ، جيوب هنا وهناك في ظاهرها إثنيات تبحث عن مصالحها ، ولكن في بواطنها  فهي أكثر تعقيدا لتضارب المصالح الدولية .

تلاشى أو يكاد النفوذ الإيراني ، ليحل محله نفوذا تركيا ، وإن كانت إسرائيل هي من خططت ونفذت لإبعاد الإيرانيين ، فهي اليوم أكثر من يساورها الشكوك بالنفوذ التركي المتعاظم في سوريا ، وهنا فهي لا تصطدم بالنفوذ التركي فحسب ، بل برؤية حليفها الأهم (الولايات المتحدة الأمريكيه) ، ومعها غالبية المجتمع الدولي ، الذي يرى بضرورة إعطاء فرصة حقيقية لحكامها الجدد ، والذي ترى فيهم إسرائيل التي لم تصحو بعد من كارثة السابع من أكتوبر ، كارثة جديدة قد أسهمت بيديها من تمكينهم من السيطرة على سوريا ، فهي لم تعد وبعد السابع من أكتوبر ، قابلة لإنتظار ما قد تحمله الأيام القادمة ، أو تجريب أي نوع من حكم الإسلاميين على حدودها من أي نوع كان ، حتى لو تم إعادة تدويرها في أقبية المخابرات العالمية .

جيوب بمسيات إثنية ظاهريا ، درزية علوية كردية وسمها ما شئت ، تقف خلفها قوى ودول ومصالح ونفوذ ، فلا الأمريكان ورغم الود الفائض مع الحكام الجدد ، وإستقبالهم فوق العادة في البيت الأبيض ، بوارد التخلي عن تحالفاتهم مع الأكراد ، ولن يفعل الإيرانيين ذات المنطق مع العلويين وحتى مع الأكراد ، وبكل تأكيد لن يفعل الروس ذلك مع العلويين والأكراد وحتى الدروز أيضا ، أما إسرائيل فهي وبحكم الجغرافيا فلن تسلم الا بحقيقة واحدة لا غير ، تقضي بعدم تسليم أوراق اللعبة لأي من اللاعبين الكبار ، بل ستتداخل في المشهد من الفه الى ياءه ، حتى وأن تضاربت مصالحها مع حليفها الأهم وتطابقت مصالحها مع خصومها الأهم أيضا ، ومن هنا فلن تكون في وارد منح النظام الجديد أي نوع من الإستقرار قبل أن تحقق فائضا من مصالحها ، لم تكن لتحلم به يوما ما .

لاعبين كبار يدور في ظلالهم لاعبين صغار كثر ، تقطعت بهم السبل للنفوذ والمصالح ، أوكلت لهم مهام لا تتناسب وحجم التغييرات التي جرت في سوريا ، وخابت توقعاتهم من سرعة حصول النظام الجديد على كل هذا الدعم الدولي ، تحاول فعل شيء في بيئة باتت معادية بمطلق الأحوال ، فشعارات مجابهة إسرائيل التي رفعتها على مدى سنوات ، باتت بفعل الضربات التي تلقتها من إسرائيل ، كمن يفر من الموت الى موت أخر وعلى نحو وآخر ، ولكنها غريزة البقاء أو بمعنى آخر ، وحال لسانهم يردد من الأفضل أن تتآكل لا أن تصدأ .

أما عن النظام العربي الرسمي في كل ما يجري ، فهو وإن كان بشكل معلن قد إصطف الى جانب النظام الجديد ، فهو لا زال يسير في ظلال اللاعبين الرئيسيين في المعادلة السورية ، ولم يرتقي الى قيادة الحالة السورية وتوجيهها ورعايتها ، بما يضمن إستقرار سوريا وحفظ مصالح كافة مركباتها الإثنية بلا تغول أحدها على الأخرى ، فهي الضمانة الوحيدة على بقاء سوريا موحدة ، إبتداءا بإرساء دستور يلبي طموحات السوريين ، وإن لم يحدث ذلك في المدى المنظور فالعواقب وخيمة ستلقي بظلالها على المنطقة العربية شاء من شاء وأبى من أبى .

خلاصة القول :ـ

من جن الى جن ، يتقاذف جنون الآدميين سوريا وتاريخها ومصالح شعبها في الحرية والإستقلال ، فبلد لم يخرج بعد من صراع دامي لأكثر من أربعة عشر ، هو أحوج ما يكون لكافة أبناءه لإعادة بناءه مجددا ، ولن تستقيم الأمور إن بقي منطق الإستحواذ هو السائد ، فالإستحواذ الحزبي الذي مارسه النظام السابق ، أوصل البلاد والعباد إلى ما هي عليه اليوم ، ولن يكون الإستحواذ الإثني بأفضل حال من سابقه ، فإستبدال الحزبي بالإثني لن تكون نتائجه بأفضل حال مما هي عليه الآن ، وسيبقى خطر التقسيم يلوح في سماء سوريا ، فالمتربصين بإستقرارها وأمنها وإبقاءها تدور في فلك الدول الفاشلة ، كثر بكل تأكيد وبلا مواربة ، فدولة متماسكة قوية هي النقيض المباشر لحملة أفكار الهيمنة والسيطرة والنفوذ ، فإسرائيل التي لم تكتفي بإقتطاع الجولان بل تمددت في الجنوب السوري بما يخدم مصالحها وتوسعها ، ولن يكون الإيرانيين بعيدين عن محاولة التمدد لإعادة ما إنقطع ما بين نفوذها في العراق وحزب الله في لبنان ، وهكذا سيبقى التخادم بينهما سيد الموقف ، وإن إستبدل حزب الله الشيعي بالجماعة الإسلامية السنية ، فالنتيجة واحدة ، هو إبقاء الجراح مفتوحة ونازفة . 

  

 

تعليقات