ترامب وتجارة المضاربة
عندما تصحو على موقف سياسي أو أمر تنفيذي ، وتمسي على
آخر مختلف ، فأعلم أنك قد وصلت الى فضاء بلد الغرائب والعجائب في زمن حاكمها
الجديد ، تاجر المضاربة دونالد ترامب ، الذي يغير مواقفه مع تغيير ربطات عنقه ، داكنة
الألوان صباحا وفاقعتة مساءا ، فقد تصبح البلدان والأفراد عظماء واعدين ويمسون أشرار
ملعونين ، لم يعد بشيء وقد وجد طريقه للتحقق ، لم يلامس أي قضية في الداخل والخارج
الا وجعلها إنموذجا للفوضى والسخرية ، حتى بات أركان إدارته وأعضاء الكونغرس ومعهم
قادة العالم ، يلهثون خلفه لا يعرفون ماذا يريد ولا أين يقف ، يدير الحياة العامة
في الولايات المتحده وسياساتها الخارجية أشبه بشريك بتجارة مضاربة لمخازن تكدست
بها بضائع كاسدة لعشرات السنوات ، لا تجد من يشتريها ، وعندما يجد أحدهم حديث
العهد بالتجارة قد قبل معاينتها كخردة ، قد تصلح فقط لإعادة التدوير ، يبدأ
بمساومته على أعلى الأسعار ، وعندما يشيح بوجهه عنها ، يرسل له السماسرة الصغار ،
لإقناعه بجدوى الصفقة ومردوداتها ، وأنه على إستعداد لعقد صفقة بنصف سعرها لشركاءه
، أما نصيبه الشخصي منها فلا ينقص سنتا واحدا ، من يقبل بهذا التعريف الجديد لعالم
التجارة السياسية ، فسيدخل حظوة نطاق ثلاثية تعريفات دونالد ترامب ، عظيم ، واعد ،
مهم ، ومن لا يدخلها ، فيكون قد دخل في نطاق نقيضها تماما ، شريرا ، بائسا ، مجنونا
، فمن يصدق تكذيبه العلني لمدير إستخباراته الوطنيه تولسي غابارد الذي عينها بنفسه
بخصوص نووي إيران ، ومن يصدق بإن الون ماسك العظيم بالأمس ، الذي فتحت له أبواب
البيت الأبيض على مصراعيها ، ليبطش بموظفي الدولة العميقة ، فيصبح مجنونا ،
متعاطيا للمخدر ، ويخرج مركولا وبكدمات بادية على وجهه ، عليه أن يصدق كلمة واحدة مما يقوله دونالد ترامب
، الذي يكذب كما يتنفس .
رابح .... رابح في كل الأحوال والظروف ، أما الخسارة فلا
مكان لها في قاموسه ، وعلى حساب من ستكون الخسارة ، فلتكن على من تكون وحتى إن
كانت على حساب الولايات المتحدة ومصالحها العليا ، خرج من الإتفاق النووي عام 2018
بتخصيب يورانيوم لا يتجاوز 3.67% ، أجهزة
طرد مركزي بدائية ، رقابة دولية مشدده ، برنامج صاروخي بالستي بدائي ، ليعود 2024
ليجد أمامه في ولايته الثانية يورانيوم مخصب بنسبة تتجاوز الستين في المئة وفق ما
هو معلن وقد تصل تسعون في المئة وفق ما هو غير معلن ، بلا أي رقابة دولية ، أجهزة
طرد مركزي فائقة القدرة ، برنامج صاروخي بالستي يضرب عصب المال والإقتصاد في تل
أبيب ولا يجد له الكثير من الحلول ، فلم يمضي كثيرا من الوقت لينسى الإيرانيين
سمفونية اليوم الحادي والستين ، حتى أتحفهم صباحا يطالبهم بالإستسلام الغير مشروط
، فيرد عليه علي خامنئي بإنه لا يعرف عن الشعب الذي يطالبه بالإستسلام الكثير ،
لتطل عليهم الناطقة الرسمية بإسم البيت الأبيض ، الحسناء كارولين ليفات ، ناقلة
رزم المتناقضات على لسان دونالد ترامب ، فتمسيهم بإن دونالد ترامب سيتخذ قرار
المشاركة في الحرب من عدمها خلال اربعة عشر يوما وأن هناك فرصة لا تعوض لاربعة عشر
يوما لعقد صفقة ، لم تحدد تعريفا لكلمة خلال هل هي يوما أقل أو أكثر ؟ أم
هي المدة التي طلبها بنيامين نتياهو لإنهاء الحرب التي بدأها ؟ أم هي المدة التي
طلبها الأوروبيين لمفاوضة الإيرانيين لإستثمار ما أحدثته العمليات العسكرية على
شكل تنازلات سياسية ، على صفقة تم تعديل زواياها والتلاعب بكلماتها ؟ قد تحتاج لدى
تاجر البازار الإيراني اشهرا إن لم يكن سنين لمناقشة تفاصيلها قبل أن يتم رفضها ،
والأهم من كل ذلك أن لا تجري المفاوضات تحت النار .
يستسهل بعض المحللين بأن يعزو هذه الفوضى أحيانا لماغا
صاحبة شعار " إجعل امريكا عظيمة مجددا " وقادتها الذين يضغطون عليه ،
للإنسحاب من القضايا الدولية ، وصرف ما ينفق في الخارج على قضايا الداخل ، وكأن
ماجا لا تعرف بإن العظمة التي يبغونها قد تحققت قبل عشرات السنين ، بمعزل
عن قضايا الخارج والنفوذ الذي بسطته الأساطيل الأمريكية التي تجوب البحار ،
والحقيقة أن هناك من الشواهد بما يكفي بإن دونالد ترامب يستخدم ماغا وغيرها
للتغطية على منطقه كتاجر مضاربة ، فهو يقدم لإسرائيل كل ما يلزم لتحقيق حالة من
التفوق على الإيرانيين ، وسيبقى على هذا الحال من الدعم اللامتناهي ، حتى إضعاف
ايران لدرجة لا تستطيع معها الإستمرار في هذه المواجهة ، حتى تلك اللحظه وإقتراب
العمليات العسكرية من نهاياتها ، وحين تصبح معها هوامش المخاطرة تقترب من الصفر ،
فحينها سينبري دونالد ترامب لتصدر المشهد العسكري وإختطاف المشهد الأخير لصورة
النصر ، وهذا المنطق يحدث ولأول مرة في تاريخ
العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ، ففي الوقت التي تعرف فيه الولايات المتحدة
بإن إنهاء البرنامج النووي الإيراني ، ليس بمقدور اسرائيل وحدها القدرة على تدميره
كليا بمفردها ، فهي تطيل من أمد الحرب وبما تحمله من خسائر فادحة لإسرائيل ، فإذا
كان هذا هو حال الحليف الأوثق للولايات المتحدة ، فكيف سيكون عليه حال من يراهنون على الولايات المتحدة وهم دون
ذلك بكثير .
ليس الأوروبيين بحال أفضل من إسرائيل ، فعلى هامش G7 طلب منه الأوروبيين إعطاءهم مساحة لفتح خط
تفاوضي مع الإيرانيين قبل إنخراط الولايات المتحدة في عمل عسكري ، في عملية
إستثمار للضغط العسكري التي ترزخ تحته ايران واسرائيل على حد سواء ، وقد منحوا هذا
التفويض ولهذه الغاية ، وفي نفس الوقت فقد كبلهم بكل السبل لفشل مسعاهم ، بمعنى
آخر فلائحة المطالبات التي سلمت لوزير خارجية ايران عراقجي ليس لها الا معنى واحد
هو رفع راية الإستسلام ، فقد تجاوزت برنامج تخصيب اليورانيوم على الأراضي الإيراني
، الى البرنامج الصاروخي الإيراني وحتى الى علاقة ايران بكل أذرعها وحلفاءها في
المنطقة ، ولم يكتفي بذلك فحسب ، ففي الوقت نفسه لا ينفك يدلي بتصريحات علنية عن
تشجيع المسعى الأوروبي ، وتشجيع ايران على عدم الإستمرار به ، بالقول إن
الإيرانيين لا يرغبون بمفاوضات مع الأوروبيين بل يرغبون بالتفاوض مع الولايات
المتحدة ، بمعنى أن لا طائل من التفاوض مع الأوروبيين وعليهم أن يستديروا نحو
الولايات المتحده ، فربما يكون للصفقة معها شروطا أفضل ، فليس هذا فحسب فقد لجأ
لفلادمير بوتين بعد أن أسال لعابه بمقايضه الشأن الأوكراني بالإيراني ، وعلى نفس
المنوال وفي تصريحات علنية ، فما بين الترحيب بأي جهد يوقف الحرب وفق المتطلبات
الأمريكية ، ينبري لإطلاق تصريحات تناقضها تماما ، بإن على بوتين ان يهتم بالشأن
الأوكراني ويدعه من الشأن الإيراني .
لم يكن دونالد ترامب ليفعل كل هذا التلاعب بالعالم بأسره
، لولا علمه المسبق بحالة الفراغ بل النضوب السياسي في القيادات السياسية الوازنة في
الولايات المتحدة أولا ، وحول بقية العالم ثانيا ، فالإتجاهات الليبرالية في
الولايات المتحده الذي يمثلها الحزب الدمقراطي في مأزق شديد بعد خسارتهم
للإنتخابات الأخيرة ، وسيطرة دونالد ترامب على البيت الأبيض ومجلسي النواب والشيوخ
على حد سواء ، وباتوا في حالة إستماع يومي للمواقف المعادية والسباب العلني
والتهكم ، فإن هم إختاروا الإحتجاجات في الشوارع كوسيلة للضغط ، فلن يتورع دونالد
ترامب عن إستخدام الحرس الوطني بل المارينز وصولا حتى لحرب أهلية لا تبقي ولا تذر
، كانت نذرها بادية للعيان في أحداث كاليفورنيا الأخيرة ، قبل أن يتراجع منظموها
عن مسعاهم ، فلم يبقى أمامهم والحالة هذه سوى الإنتظار لما قد تسفر عنه الإنتخابات
النصفية الأمريكيه بعد قرابة العام من الآن ، مع كل ما تحمله من مخاطر حتى ذلك
الحين ، فإذا كان حال الساسة الأمريكيين على هذا المنوال ، فلن يكون قادة العالم
بحال أفضل ، فقد شاهدوا بالأمس القريب واقعة فلاديمير زيلنسكي على الهواء مباشرة ،
عدا عن حالات التنمر على قادة العالم ، بل وتعمد تناول شخوصهم بالسخرية كلما
إستطاع لذلك سبيلا ، وحتى من جبى منهم المليارات وفي عقر دارهم ، ومع إزدياد هذه
الحوادث المتكررة والتي لم تجد من يتصدى لها ، فسيجد دونالد ترامب الطريق سالكا
أمامه للمضي قدما بسياساته .
لا يختلف منطق دونالد ترامب في إدارة تحالفاته بمحصلتها
النهائيه عن منطق تاجر البزار الإيراني ، وإن تحلى ببعض الكياسة ، لقد وقع
الإيرانيون ومنذ الساعات الأولى لإندلاع أحداث السابع من أكتوبر بذات منطق تجارة
المضاربة ، فما بين يرتدي البزة العسكرية من أركان الحرس الثوري وفيلق القدس ، من
أطلق عليها بعمليات الثأر المقدس لقاسم سليماني ، الى من يرتدي البزة المدنية
والذي إعتبرها بإنها عمليات لم يكن يعلموا عنها شيئا ، فهناك مساحات واسعة
للمضاربة وتبريرا للتلكؤ، على قاعدة تم إرساء قواعدها بإن التدخل المباشر الإيراني
سيكون فقط عند المساس المباشر بالمصالح الإيرانية ، وهو ما كان ، فقد تركوا حلفاءهم يذبحون واحدا تلو الآخر ،
حتى ذبحت حماس ومعها غزة ومقدراتها وباتت تلك المنطقة بيئة غير صالحه للحياة ، فحزب
الله ومعه لبنان بمقدراته ، وسقط النظام في سوريا وتم إحلال نظام معادي بالمطلق
لإيران ، فاليمن ومقدراته الإستراتيجية وشرايين الحياة التي يتنفس منها ، وقد جاء
الوقت لها ، ثمنا لكل هذا التلكؤ وحسابات إستراتيجية وفق منطق المضاربة ، والتي
كان ثمنها التضحيه بالحلفاء مقابل بقاء النظام في ايران ، فكان على المرشد علي
خامنئي الرأس المدبر لكل هذه الأذرع ، والذي يحتفظ بكل هذه الترسانة الحربية ، بأن
يعلم بإنه سيكون التالي ، بعد مقتل كل من حسن نصر الله وإسماعيل هنية ، فلا يعقل
أن يبقى أصل المشكلة والقضاء على فروعها ، وأن بقاءه على قيد الحياة حتى الآن هو
مسألة وقت لا أكثر ولا أقل ، تقتضيها حسابات الفوضى الناشئة في هذه البلد ، قبل
إيجاد البديل لكل هذه المنظومة الحاكمة في ايران ، فمن شارك في إسقاط النظام في
العراق في غابر الزمان ، مقابل إنشاء حكم طائفي بجوار حدوده الغربية ، وتعايش مع
القواعد الأمريكية في المنطقه طيلة هذه السنوات ، ليحتفظ بشعارات تصلح لتجارة
المضاربة ، من قبيل الموت لأمريكا وإسرائيل ، فعليه توقع النتائج التي صارت حقيقة
واقعة على الأرض ، حتى وإن كان علي خامنئي لا زال يراهن على مقايضة بقاء النظام في
ايران بالتنازل عن تخصيب اليورانيوم على اراضيه ، فاللعبة القديمة باتت من الماضي
، فلم يدخل بنيامين نتياهو هذه الحرب مع كل هذه الخسائر ، لتنتهي ببقاء نظام
الملالي في ايران .
خلاصة القول :ـ
في الوقت الذي قرر فيه تاجر المضاربات دونالد ترامب ، أن
يضيء اللون الأخضر ، لإندلاع صراع بين بلد نووي وأخرى على ابواب العتبة النووية ،
متخمين بالسلاح كما الأيديوجيا حد الثمالة ، في منطقة إمداد للطاقة العالمية ، بلا
ضوابط أخلاقية ، فعليك أن تضع بالحسبان بإن الأسوء لم يأتي بعد ، فمعركة تكسير
العظام وصفريتها وبعد أسبوع على إندلاعها ، تشي بذهابهما لآخر المديات الممكنه ،
فإما سقوط النظام في ايران وإما بقاء اسرائيل كدولة في هذه المنطقة ، وحتى ذلك
الحين فللحديث بقية .
تعليقات
إرسال تعليق