عصفور كفل زرزور وإثنيناتهم
طيارة
هو مثل عراقي قديم شائع الإستخدام يناسب الحالة التي
يعيشها الشرق الأوسط ، فعندما يتخادم شخص مع شبيه له ، محتال يكفل محتل ، كذاب
يثني على أقوال شبيهه بالكذب وهكذا ، فحينها يقال "عصفور كفل زرزور وإثنيناتهم طيارة" ،
عقد الإجتماع المرتقب بين بنيامين نتياهو ودونالد ترامب في قاعة الإجتماعات
المخصصة لكبار الشخصيات في جو حميمي وعلى مأدبة عشاء ، بعيدا عن المكتب البيضاوي
المخصص للإجتماعات الرسمية ونصب الكمائن المعدة للزعماء من الدرجة الثانية ، حضره
بعض اركان الصحافة المختارين بعناية لتوثيق اللحظة وعدم إفسادها بنفس الوقت ،
يتبادلان الإشادات المتبادلة بأرفع العبارات شأنا ، يسلم بنيامين نتياهو نسخة عن
رسالة كان قد ارسلها للجنة نوبل للسلام ، يدعم فيها ترشيح دونالد ترامب لنيل
الجائزة الأرفع لصانعي السلام حول العالم ، ليرد بنيامين نتياهو الجميل بأحسن منه
لدونالد ترامب ، ردا على مبادرة قام بها دونالد ترامب يطلب فيها من مؤسسات اسرائيل
إعفاءه من المحاكمة بقضايا الفساد بل تكريمه كأحد أبطال إسرائيل ، مدان بقضايا
فساد في بلده يطلب إعفاء شبيهه من محكمة جارية لإدانته ، ومطلوب بمذكرة توقيف من
الجنائية الدولية ، يرشح نظيره لنيل جائزة نوبل للسلام ، يحيل دونالد ترامب الأسئلة الموجهة له فيما
يختص بقضايا المنطقة لبنيامين نتياهو ، فهو الأقدر تعبيرا عنها ، لألمامه
بتفاصيلها الذي كتبها بخط يده ، فليس من فروقات
تذكر في الرؤيا الإستراتيجية لما سيكون عليه وجه الشرق الأوسط الجديد ، فما سيطلبه
بنيامين نتياهو فهو ما سيكون ، فقد بدأ عصر السلام بالقوة وولا الى غير رجعة عصر التغييرات
الكبرى بالقوة الناعمة ، فطائرات الشبح باتت تعرف طريقها الى طهران ، وقد تضطر
للتحليق فوق كهوف اليمن ايضا .
أما ما كان قبل قرابة
شهر حين زار دونالد ترامب ثلاثة دول خليجية ، وصنعت وسائل الإعلام الأمريكية والإسرائيليه
، كل ما يلزم لإشاعة جو من القطيعه بين دونالد ترامب وبنيامين نتياهو ، بدليل
إستثناء اسرائيل من الزيارة كسابقة تاريخية ، وإنسياق الإعلام العربي ، ليتناولها
بالتحليل حتى ذهب البعض للقول ، الى أن بداية تغييرات استراتيجية في العلاقات
الأمريكية الإسرائيلية باتت وشيكة ، وما أن إنفض الجمع والهالة المواكبة للحدث ،
حتى اتضح أن كل ما تم سوقه في هذا الإتجاه كان من باب التضليل الإعلامي ، وليؤدي
خدمة لإنجاح زيارة دونالد ترامب ، دون التشويش عليها من إنتقادات الرأي العام
العربي ، في ظل ما يحدث من مقتلة كبرى في غزة بالسلاح والدعم السياسي الأمريكي ،
أو بمعنى آخر فهي رسالة أمريكية للعرب ، فإن كان لكم أعتراضات على السياسات
الإسرائيلية ، فإن للولايات المتحدة لها إعتراضات مماثلة ، فلا يجادلني أحد بهذا
الشأن ، وهو ما كان بالتمام وبالكمال ، ولم يطل الوقت كثيرا حتى تبين أن التخطيط
الإستراتيجي بين الولايات المتحدة واسرائيل كان يؤخذ ابعاد أكثر عمقا ، لتوجه
اسرائيل ضربات قوية لإيران ، بموافقة وتنسيق تام مع الولايات المتحدة الأمريكية ،
بل ومشاركة الولايات المتحدة لتتويج الضربات بمشاركة طائرات الشبح الأمريكية ،
لتضع حدا لبرنامج نووي ايران لسنوات عديدة على أقل تقدير ، وكل هذا حدث في ظل
مفاوضات كانت تجري بوساطة عمانية .
مع وصول بنيامين نتياهو الى واشنطن والذي لا يحمل في
حقيبته وعلى جدول أعماله عنوانا محددا ، بل هو نقاش استراتيجي مفتوح بعناوين عديدة
، ماذا بعد حرب الإثنا عشر يوما مع ايران وهل كانت كافية لتقويض برنامج ايران
النووي والصاروخي ؟ ماذا بعد هدنة الستين يوما في غزة وما ستسفر عنه المفاوضات مع
حماس على نزع جزءا مهما من أسباب قوتها خلالهما ؟ ماذا عن لبنان وسحب سلاح حزب
الله الذي لا حلول لبنانية داخلية له حتى الآن ؟ ماذا عن البحر الأحمر والحوثيين
والذي لم تجدي كل الضربات الأمريكية والإسرائيلية معهم نفعا حتى الآن ؟ ماذا عن
الحالة السورية وهل يتمكن من يعتلي سدة الحكم فيها بالذهاب الى مديات بعيدة في
العلاقة مع اسرائيل ؟ ماذا عن الأردنيين والمصريين ومدى تجاوبهم مع مخططات الدفع
بسكان غزة نحوهم ؟ ماذا عن الضفه الغربية وإقتطاع أجزاء منها لصالح اسرائيل ؟ مما
لا شك فيه بإن دونالد ترامب يعتني جدا بالقراءة الإسرائيلية للمشهد في الشرق
الأوسط ، بل يمكن القول أنه في كثير من الأحيان يثق بها أكثر من قراءة المؤسسات
الأمريكية نفسها ، على إعتبار أن الأمن الإسرائيلي أثبت تغلغله العميق بهذه القوى
، وقد أثبت فعالية حاسمة في توجيه ضربات محكمة لها لم تكن متاحة للأمريكيين أنفسهم
، والتي ستكون حجر الزاوية في رسم الإستراتيجيات المستقبلية ، إذ لا يمكن بناء
سياسات واستراتيجيات بلا قواعد معلومات وبيانات دقيقة محدثة بشكل دائم ودوري في
الواقع ، والذي وفر حالة من الإنكشاف الأمني الإيراني في حرب الإثنا عشر يوما
الأخيرة .
باتت من أكثر الكلمات الدارجة على لسان الناطقين بإسم
المحور الإيراني مؤخرا ، هو طلب ضمانات من الولايات المتحدة الأمريكية ، ايران
تريد ضمانات ، حزب الله يريد ضمانات ، حماس تريد ضمانات ، وهم يعرفون مسبقا ، بإن
لا ضمانات لدى دونالد ترامب سوى لإسرائيل ، فما هو السر خلف طلب المستحيل من هذا
التيار بلغة السياسة ، وهم يعرفون مسبقا بإن لا ضمانات مع شخص كدونالد ترامب ،
الذي يمسي على حال ويصبح على نقيضه ، وبعد بحث مستفيض فلم أجد غير سبب وحيد لذلك ،
هو أن هذا التيار بات على يقين بإن أفضل السبل للتعامل مع حاكم البيت الأبيض هو
نقل النقاش من مربع الرفض الكلي الى مربع مناقشة الضمانات الغير موجوده أصلا ، وذلك
للحد من إنجرافه بالمطلق نحو خيارات بنيامين نتياهو ، والتي هي البديل الحاضر على
الطاولة بشكل مؤكد ، ولكن السؤال الأهم هو كم من الوقت من الممكن أن تؤدي هذه
السياسات مفاعيلها على الأرض ؟ وفي الحقيقة أنها لن تخدم مشروع هذا المحور على
المدى المتوسط والطويل ، فهي قد تصلح كسياسات آنية ولحظية ، وهي غير ذات صلة
بمعالجة الإختلالات الكارثية التي لحقت بالمحور وجمهوره وبمناطق نفوذه أيضا ،
فعشرون شهرا كانت أكثر من كافية لتقول ، بإن ايران لم تعد ايران قبل السابع من
أكتوبر وكذا الحال لكافة أذرعها في محيط اسرائيل والبعيده عنها أيضا ، وهو ما
يتطلب أعادة النظر في كل السياسات المتبعه ، وليس ابر التخدير هي التي سوف تحل
أزمة هذا المحور بكل تأكيد .
لقد بات معروفا بإن العلاقة الأسرائيلية الأمريكية في
عهد دونالد ترامب ، قد تجاوزت كل السقوف المتوقعة مع أي إدارة سبقت الحكم في
الولايات المتحدة ، وقد عبر عن ذلك بنيامين نتياهو قبل أن يصعد الى سلم الطائرة
التي ستقله للولايات المتحده ، قائلا أن العلاقه الإسرائيلية الأمريكية في عهد هذا
الرئيس ، هي شيء مختلف عن كل الإدارات السابقة ، وهو محق جدا في هذا التوصيف ، بل
أن التوافق وصل حدود سماح دونالد ترامب لنفسه بالتدخل في الشأن القضائي الإسرائيلي
، لإعفاء بنيامين نتياهو من المحاكمة بدعوى التفرغ للشأن الخارجي ، وهي سابقة في
العلاقات ما بين الدول ، بل ذهب الى وصف بنيامين نتياهو بأحد ابطال اسرائيل والذي
حقق لها ما لم يحققه أحد ، فعلى الباحثين عن ضمانات من قبل دونالد ترامب أن
يتوقعوا بإن الأسوء لم يأت بعد .
مما لاشك فيه بإن ركام المعركة على مدى عشرون شهرا قد
يفوق صعوبة المعركة نفسها ، فلم يكن يخطر ببال حماس ولا من صمم أحداث السابع من
أكتوبر بإنها ستحدث كل هذا الدمار ليطال المحور بأسره ، ولم يكن يخطر ببال إسرائيل
بأن تطول هذه الحرب وتتوسع بهذا القدر ، وتصبح معها اسرائيل بحاجة الى معالجة كافة
التهديدات دفعة واحدة ، مما خلق ركام هائل في الشرق الأوسط له أول وليس له آخر ، لناحية
المصالح وتضارباتها ، حيث طالت شظايا المعركة مناطق ومصالح عديدين لن يكونوا
ميسرين بكل الأحوال لمساعي الأطراف المتصارعة قبل تحقق مصالحهم ، وعلى الرغم من كل
ما أنجزه الإسرائيليين على مدى عشرون شهرا وهو كبير بالمقاييس العسكرية ، الا أن
سعره في سوق السياسات الشرق أوسطيه متدني للغاية ، لسبب بسيط للغاية بإن إسرائيل
لا تجد من يشتري إنتصارها العسكري ، فلا الإيرانيين يقرون بهذا التفوق ولا زالت
الشعارات على حالها ، ولا حزب الله يقر بذلك ولا زالت الشعارات على حالها ، وكذا
الحال بالنسبة لحماس وعلى الرغم من كل ما أصابها ، وحتى الأطراف البعيدة عن الصراع
فليس من مصلحة أحد شراء هذا التفوق العسكري ، فالمصريون ، الأردنيون ، الخليجيون ،
الأتراك وحتى الأوروبيين ليسوا مستعدين لذلك ، فالقاسم المشترك بينهم ينطلق من
معادلة بإن اسرائيل المحكومة باليمين المتطرف ، لن تفهم هذا التفوق سوى بلغة
المزيد من التوسع والتغول على المنطقة وسكانها ، وهي لن تتقدم خطوة واحدة نحو
صناعة السلام والإستقرار في هذه المنطقة ، ولذا فلن تجد من ييسر مسعاها بكل تأكيد
.
في عصر دونالد ترامب وبنيامين نتياهو لا يتوقعن أحدا اية
نهاية لدوامة الصراعات المفتوحه على مصراعيها والقابلة لمزيد من التوسع ، فهم
كانوا المؤسسين لذلك في فترة حكم دونالد ترامب الأولى ، فضم القدس والجولان
لإسرائيل ، وصفقة القرن التي قوضت عمليا أي فرصة لقيام الدولة الفلسطينية ، وما
يسمى بإتفإقيات السلام الإبراهيمية مع دول تبعد الاف الكيلومترات عن اسرائيل ،
وتجاهل بؤرة الصراع الرئيسية ووضع حلول لا ترقى لأي من مقررات الأمم المتحده ، بل
والسعي لتوسيع هذه الإتفاقيات ، كانت بمثابة تراكمات أسست لكل هذه الفوضى بالمنطقة
، واستخدمت كأساس تعبوي من قبل هذا المحور لإندلاع أعمال عنف واسعة النطاق ، وصولا
لأحداث السابع من أكتوبر ، فلم يخفي القائمين عليه بإن منع التطبيع مع السعودية
كان من بين أحد أهم أسبابه ، مضافا لها كل مخرجات سياسات دونالد ترامب وبنيامين
نتياهو السابقة .
خلاصة القول :ـ
أنه المستحيل بكل ما تعنيه الكلمة ، فعندما تطلب من
العالم بأسره أن يتغير وفق رؤيتك ، فلا بد من إمتلاك السيطرة على كافة مفاصل أدوات
التغيير ، والسؤال المشروع الذي لا بد وأنه يناقش همسا في دوائر صنع القرار الدولي
، هو كم تمتلك الولايات المتحدة من أدوات هذا التغيير المنشود ، والحقيقة بإنها لا
تمتلك الكثير منها ، فإخضاع الإقتصاد العالمي لرؤية دونالد ترامب ، تمرد عليها
الكنديين واليابانيين والكوريين والمكسيكيين فكيف سيكون عليه الأمر لو تمرد عليها
بقية أقطاب العالم ، وكذا الحال فيما يتصل بكافة القضايا الجيوسياسبة ، الا أن
دونالد ترامب يراهن على تنفيذ أجندته مع الدول بالتجزئة ، فيسيل لعاب هذا
بإمتيازات خادعة لا تعدو عن كونها ليست أكثر من كلمات فارغة من أية مضامين ، ويرفع
العصا في وجه ذاك ليخضعه لإرادته وهكذا دواليك ، فسيبقى الحال كما هو عليه حتى
ينتفض العالم بشكل موحد بعيدا عن المصالح الآنية التي يبشر بها دونالد ترامب ، فهي
لن تأتي أبدا ، أما المنطقة العربية والتي إستلب من صناديقها السيادية تريليونات
الدولارات ، فهي أكثر المطالبين بوقفة أكثر مسؤولية ، فلا يظن أحدا بإنه يمكن مدارات
سفاهة دونالد ترامب بالأموال ، فهو في حالة من الجشع الذي يرقى الى التوحش ، وليكن
لكم عبرة بإيلون ماسك الذي أوصله بأمواله الى سدة الحكم ، وكيف بات اليوم وفق منطق
دونالد مهددا بالطرد من الولايات المتحدة .
تعليقات
إرسال تعليق