القائمة الرئيسية

الصفحات

 




ربما كنت جالساً بالعكس

ينسب الى وليام شكسبير مقولة " لا تقل أن الدنيا تعطيني ظهرها ، فربما كنت جالسا بالعكس" ، كُتب وسَيُكتب الكثير في معرض دراسة إندلاع أحداث السابع من أكتوبر 2023 ، وفهم ما جرى في هذا اليوم  ، ولكن بات من الثابت ، بإن من أراد قراءة ما جرى من أحداث في هذا اليوم ، فعليه أعادة قراءة ما جرى من أحداث في حرب السادس من أكتوبر عام 1973 ، ليس من زاوية إستنساخها لناحية المباغتة والمفاجئة والتي كانت هي العامل الحاسم فيما جرى من أحداث فحسب ، بل من زاوية لا تقل عنها أهمية وهي ، تلك ألمفاهيم الثقاقية السائدة في المجتمع الإسرائيلي عشيتها ، وفي معرض التوسع في القراءة ستصادف تصريحا منسوبا لابا إيبان وزير خارجية إسرائيل خلال حرب عام 1973 ، حيث يقول " لقد طرأت متغيرات كثيرة منذ السادس من أكتوبر ، لذلك لا ينبغي أن نبالغ في مسألة التفوق العسكري الإسرائيلي ، بل على العكس فهناك شعورا طاغيا في إسرائيل الآن ، بضرورة إعادة النظر في علم البلاغة الوطنية ، ستتوقف مطولا أمام مصطلح علم البلاغة الوطنية ، والذي لن تجد له تعريفا مكتملا في أي من المراجع اللغوية والسياسية ، وما صلته بالضربة الموجعة التي تلقتها إسرائيل في الساعات الأولى لهذه الحرب ، والذي أحدثت هزة في المفاهيم العسكرية بإنهيار أسطورة خط بارليف ، وبعد طول بحث فستجد أن ما قصده ، هو أن الخلل يكمن في المفاهيم التربوية للمجتمع الإسرائيلي بمجمله ، ففي أعقاب إنتصارهم الساحق وفي ساعات على جميع الجيوش العربية عام 1967 ، فقد ترسخت النظرة الدونية للعرب في اللغة والسلوك ، حيث دفعهم هذا الشعور بفائض القوة لعدم تصديق أن العرب قادرين على فعل شيء في يوم من الأيام ، وأنهم باتوا يحلمون بتحقيق حلم إسرائيل الكبرى ، فحتى أدق المعلومات الإستخبارية باتت تؤخذ على محمل الإستخفاف بها  ، فقدم لهم المصريين أشرف مروان (زوج إبنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر) والشخصية المرموقة في الوسط العسكري والأمني ، لجس النبض وفحص مدى الإستعداد الإسرائيلي للحرب ، وقدم لهم معلومات دقيقة بأدق التفاصيل ، فوجد المصريين بإن أسرائيل تجلس بالعكس ، فكانت الفرصة سانحة للمباغته والتنفيذ ، وخلال ستة ساعات كانت القوات المصرية على الجانب الآخر من القناة ، ولولا التدخل الأمريكي بالعدة والعتاد وبكل أشكال الضغط السياسي ، لكانت إسرائيل شيء من الماضي ....ولأن إسرائيل المتخمة بفائض القوة مجددا ولا تتعلم من تجاربها شيئا ، فقد أعاد التاريخ نفسه مجددا في 2023 وبعد خمسين عاما  ، حيث كانت تدير ظهرها لبرميل البارود على حدودها الجنوبية ، متخمة وفرحة بعطايا دونالد ترامب بضم القدس والجولان وبإتفاقيات ابراهام مع أمبراطوريات المال الخليجي إبان ولايته الأولى ، تلاحق الإرهاب الديبلوماسي الفلسطيني في الأمم المتحدة ، ونووي ايران على بعد 2000كلم ، ويتفنن ثنائي الصهيونية الدينية في حكومة الأساطير ، في لعبة إيذاء الفلسطينيين ، تخصص الأول بن غفير في القدس وما جاورها وفي أقدس مقدساتهم ، أما الآخر سموتريتش فكانت الضفة الغربية ولإستيطان المحموم وحرق القرى العربية مسرحه المفضل ، وتمد نقيض الشرعية الفلسطينية بالمال ، وتغمض عينيها عن كل التقارير الإستخبارية والخطط التي سلمت لها من مصادرها المرموقة في حماس وبأدق التفاصيل ، فأعاد التاريخ نفسه فإذا بأشرف مروان جديد ربما يكون أسمه شيئا مختلفا  ، فلم يعد يهم كثيرا  ، فالأيام كفيلة بكشف النقاب عنه ، ليجد إسرائيل المتخمة بفائض القوة تجلس بالعكس مجددا ، وإذا بأسطورة السياج الأمني والمزود بأفضل ما توصلت اليه التقنيات الحديثة ، تدوسه سيارات الدفع الرباعي والدراجات النارية وحتى أقدام العامة من بسطاء الناس ، ويعود مشهد سقوط خط بارليف نفسه من جديد ، ويعود الغزيين محملين بكل شيء ، حتى بمواطنيهم وجنودهم ومعهم أسلحتهم أيضا ، في توقيت يعيد عقارب الزمن خمسون عاما الى الخلف ، ولكن ما سقط من حسابات قادة حماس تماما ، بإن غزة ليست مصر بجيشها وإمكانياتها ، وأن بنيامين نتياهو ليس غولدا مئير ، ولا بن غفير هو أبا إيبان ، ولا الزمن هو زمن هنري كيسنجر ، وأن إسرائيل لم تعد النظر في علم البلاغة الوطنية بعد خمسون عاما فحسب ، بل تمعن في الجلوس بشكل معاكس ليس للحقائق والمتغيرات السياسية  ، بل أيضا لحركة التاريخ وشرعة القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ، فلنا أن نتخيل رئيس وزراء على وشك مغادرة الحياة السياسية بكل هذا الإرث الثقيل ، لا زال يتحدث عن أحلام بناء دولة من النيل الى الفرات ، ووزير يسابق الزمن لقطع الطريق الواصل بين جنوب ووسط الضفة الغربية بكتل إستيطانية ، ووزير أمن في دولة غارقة بالأزمات الأمنية يجد لديه المتسع من الوقت لإقتحام زنزانة الأسير الأكثر رمزية للفلسطينيين ، ليلقي عليه ترهات مجتزئه وينشرها للعالم ، الذي لا يصدق كلمة واحدة مما يقوله ، بل بات من المحظور إستقباله في بعض عواصم الغرب .

بين أصوليتين دينيتين حشر الإسرائيليين والفلسطينيين ، فمن كانوا يوما على هامش الحياة السياسية الفلسطينية والإسرائيلية ، باتوا  لاعبيها ومحركي إيقاعها الأساسيين ، أحلام قديمة وأساطير يعج بها الفضاء الإعلامي ، إتخم الجمهوران بمفاهيم أكل الدهر عليها وشرب ، ولم تعد تلامس لغة الواقع ولا العصر أيضا ، كانت ذروة ترجمتها الى أنفجار حتمي ، هي أحداث السابع من أكتوبر ، وحتى لا ننسى فما أقامه بنيامين نتياهو من تحالفات مع أقاصي اليمين وعتاة المستوطنين في أعقاب آخر إنتخابات أجريت في إسرائيل عام 2022 ، هي تحالفات الضرورة بعد وصول مشروعه السياسي الى طريق موصد ، ناهيك عن قضايا الفساد المرفوعة ضده والمنظورة في محاكم إسرائيل ، وحتى لا ننسى أيضا فإن مشروع الحكم لحماس في غزة وصل الى نهاياتاه ، فلم يعد لديها ما تقدمه للناس ، وباتت غزة بيئة طاردة للشباب ، فركبوا البحر ولم يتركوا وسيلة الا وإتبعوها للخروج من غزة ، فلم يعد أحد في إسرائيل لديه مجرد الشجاعة للحديث حول السلام ، وعلى الطرف الآخر لم يكن الحال بأفضل من ذلك ، فلا حديث سوى عن السيوف المتقابلة ورموز الأصولية الدينية ، كان هذا في القدس وفي أقدس الأمكنة وعلى بواباتها ، فذاك يسبح على بطنه في سجود ملحمي ، وفي مقابله آخر يهتف لوضع السيف فوق السيف ورمزهم محمد الضيف ، فلم العجب إذن فمصطلحات علم البلاغة الوطنية في ذروتها ، صنعها زعيم الصهيونية المتوج للتو بنيامين نتياهو بيديه ، ليقابله على الطرف الآخر زعيم متوج للتو للأصولية الدينية الإسلامية في غزة ، والحاكم لواقع أمرها الفعلي يحيى السنوار .

بلغة الواقعية السياسية لن نذهب للإيغال في المزيد في حبائل نظرية المؤامرة ، رغم توفر العديد من أركانها ، فالحالة التي كان يعيشها بنيامين نتياهو عشية أحداث السابع من أكتوبر هي حالة من الإستعصاء السياسي ، وبات قاب قوسين أو أدنى من السقوط ، فالمظاهرات تملئ الشوارع فيما عرف بمواجهة سياساته للإنقلاب القضائي ، وإقالته لوزير دفاعه وتراجعه عنها بضغط أمريكي من إدارة جو بايدن ، والتي فسرت في الأوساط السياسية في غير صالحه أيضا ، فلماذا لم يعطي الطرف الآخر الفرصة الكافية للجمهور الإسرائيلي لإسقاط حكومة عتاة اليمين ، بل أخذ القرار بشكل معاكس تماما ، واعتبرها فرصة سانحة لتنفيذ أحداث السابع من أكتوبر ، ولم يعد سرا فقد وجه عضو الكنيست أفيغدور ليبرمان إتهامات علنية لبنيامين نتياهو عبر منبر الكنيست ، بإن مئير بن شبات مستشار الأمن القومي في إسرائيل واظب على نقل رسائل سرية بين يحيى السنوار وبنيامين نتياهو ، وأن بنيامين نتياهو أوفد رئيس الموساد ورئيس الأركان لقطر لحثهم على مزيد من ضخ الأموال لحماس ، ولم يعد أحدا يصدق بإن القطريين كانوا بمنأى عن هذه الإتصالات ، بين قيادة حماس لديهم وبين الإسرائيليين ، ستكشف الأيام القادمة عن المزيد منها ، لتضع النقاط على الحروف لتعزز أي النظرتين كان لها نصيبا أكبر من الحقيقة ، هل تواطئ بنيامين نتياهو مع مصدر معلوماته رفيع المستوى في حماس ، على إندلاع هذه الأحداث لكنها خرجت عن إيقاعها المرسوم ؟ أم أن يحيى السنوار قام بعملية خداع إستراتيجي كبرى لبنيامين نتياهو ، مما أدخله في حالة من العمى الإستراتيجي ، ونفذ أحداث السابع من أكتوبر بالطريقة الدرامية التي تمت بها  ، حيث فقد بنيامين نتياهو توازنه ، وبات بنيامين نتياهو اليوم يضرب حماس الذي إستخدمها لسنوات للقضاء على حلم الفلسطينيين بدولة مستقلة ذات سيادة ، ليس كعدو فحسب ، بل لرد الإعتبار لنفسه وتاريخه وكل ما علق به تبعا لسياسات الإحتواء المضللة  ، التي سيتحمل وزرها ، حيث باتت جزءا من إرثه وتاريخه في حكم إسرائيل .

خلاصة القول :ـ

بات العالم وبعد اثنان وعشرون شهرا من فصول وألوان حرب الأساطير ،  أكثر يقينا بإن لا حل للأزمة الوجودية لإسرائيل سوى بإقامة دولة فلسطينية الى جانبها ، وإعادة تعريفها لنفسها ولحدودها ، وأن جلوس الإسرائيللين بشكل معاكس  ، لكل الحقائق الجو سياسية التي لا يمكن ضحضها كما لا يمكن للقوة العسكرية وفائض القوة والمزيد منه معالجتها بأي حال من الأحوال ، وأن المراهنه على التحالفات مع الولايات المتحدة لا يمكن الإرتكان اليه طويلا أيضا ، وحتى وأن كان دونالد ترامب على رأس الحكم فيها ، وهو العالق والمترنح يمنة ويسرى بين تخيلاته من جهة ، والحقائق السياسية والإقتصادية التي بات في مواجهة يومية معها ، ولكن إسرائيل باتت اليوم بحاجة الى معجزة لتخرج من بينهم من يمتلك شجاعة تعليق جرس المطالبة بإعادة تعريف إسرائيل لنفسها وحدود قوتها ، فالعالم بأسره قد ضاق ذرعا بحروبها التي لا تنتهي ، والتي باتت في حالة إتساع يوما إثر آخر . وباتت تصدر الى العالم أزماتها ، كلما إستعصى عليها إعادة تموضعها في منطقة تكن لها كل هذا الكره والنفور .     

                     

تعليقات