تضاربت الروايات في أصل هذا المثل الشعبي القديم ، ما
بين قصة فتاة حصلت على كنز ، عجز كثيرون
من الحصول عليه ، بسبب الهلاوس السمعية المرعبة التي تعرضوا لها في الطريق الموصلة
الى مكان الكنز ، بعد أن تمكنت من التحايل على هذه الهلاوس بوضع قطعة من العجين في
إحدى إذنيها ، وعندما لم يكن ذلك كافيا لقطع إتصالها بما يدور حولها ، وضعت في
الأذن الأخرى قطعة من الطين ، لتكمل مهمتها بنجاج في حين عجز الآخرون عن ذلك ...
وكحال كل شيء للعرب وحضاراتهم القديمة وموروثهم الثقافي والذي يختلفون فيه على كل شيء
، فهناك من نسبه الى رواية تفيد بأن شابا يافعا كان يساعد والده في وضع طبقات من
الطين على سقف منزلهم إستعدادا لإستقبال فصل الشتاء العاصف ، وقد أرهقه التعب
لكثرة طلبات والده ، وبضربة حظ سقطت كتلة من الطين فأغلقت تجويف أذنه ، فبات لا
يسمع سوى بشكل مشوش ، فأعجبته الفكرة بأن قلة السمع أراحته من تلقي وتنفيذ طلبات
والده دون شعور بالذنب لعصيانه هذه المطالبات ، وحتى يحكم هذا الشعور فقد كانت
والدته قد حضرت العجين لصناعة الخبز ، فغافلها وإقتطع القليل منه ووضعها في أذنه
الأخرى ، فبات عديم السمع تماما وهنا أكتملت حلقات عدم الشعور بالذنب ، وأقنع نفسه
بإن تعطيل أحد أجمل الحواس وهي حاسة السمع وعدم الرغبة في معرفة ما يدور حوله قد
أراحه من الإرهاق لتنفيذ مطالبات آنية لا يقوى عليها ..... العبرة في كلتا
المرويتان وهذا التكوين اللغوي المجازي الذي أنتجته التجارب الثقافية للعرب ، بإن الإنفصال عن الواقع وما يدور حولنا وصم
الآذان عن كل ما يتصل به قد يخلق هذه الشعور المخادع بالراحة النفسية ، وقد تكون
مغامرة نافعة في بعض الأحيان فيما يتصل بالحياة الشخصية للبشر ، كون النتائج في
محصلتها النهائية ، كانت سلبا أو إيجابا
قد تكون تأثيراتها وتداعياتها محدودة في الشخص ومحيطه المحدود للغاية ، أما إن
كانت هذه القرارات متصلة بالقضايا العامة التي تمس حياة الناس فهو أمر مختلف تماما
، فإنسحاب صانعي القرارات عن قضايا المجتمع وصم الآذان عن سماعها ، بدعوى أن هذه
الأصوات قد تثبط العزائم نحو تحقيق الأهداف التي يسعون لتحقيقها ، فهو عمل محكوم
عليه مسبقا بالفشل الذريع ، فهو كمن يقود
جموع تتوجس الريبة والشك في المسعى الموصل لهذه الأهداف ، وستبدأ بالعمل لاإراديا
في إعاقته والتشويش والتشكيك به ، حتى لو غلفت هذه الأهداف بكل القيم السامية ، والتي
هي بالأصل كانت محل إجماع شعبي في يوم من الأيام ، كقطار يجر عربات تتشبث بالسكه
متثاقلة ومتشككة ، بإن المحطة القادمة ستكون هي المحطة المستهدفة للتخلص من إفراغ
حمولتها وأعباء أثقالها .
في أعقاب وصول مفاوضات صفقة التبادل الى طريق مسدود ،
وهو ما كان متوقعا بالضبط ، وذلك للتضارب الصارخ بين أهداف بنيامين نتياهو وبين
أهداف حماس ، ففي حين يريدها بنيامين نتياهو محطة توقف مؤقتة لإستعادة نصف ما تبقى
من أسرى أحياء وأموات ، ومعاودة الحرب سيرتها الأولى لإستكمال أهدافها ، فحماس
تريدها خطوة على طريق إنهاء الحرب وإنسحاب اسرائيل من غزة وإعادة أعمارها ، وقد
أدخلت كل ما يلزم من مطالبات لعدم المضي قدما بها ، وعلى خلفية هذا الإستعصاء ، إتخذ
المجلس المصغر لحكومة الأساطير في جلسة الخميس السابع من آب صيغة مدروسة بعناية
لما أسماها بخطة السيطره على كامل قطاع غزة ، طالبا من الجيش إعداد الخطط
التنفيذية لذلك ، وترك الباب مواربا لإمكانية تنفيذ صفقة تبادل خلال هذه الفترة
والمقدرة بشهرين أي حتى موعد الذكرى
الثانية لإنطلاق عمليات طوفان الأقصى ، وسط تسريبات مدروسة بعناية أيضا مصدرها
مكتب بنيامين نتياهو شخصيا ، عن خلافات ما بين الجيش والمستوى السياسي حيال هذه
الخطة ، كحال الخلاف لمن تسعفه الذاكرة حيال إحتلال رفح ومحور فيلادلفيا ، والخلافات
التي سربها مكتب بنيامين نتياهو مع الجيش وهرتسي هليفي رئيس أركانه ، حيث نفذ
بنيامين نتياهو الدخول الى رفح وأخلى مليون فلسطيني منها ، وباتت أليوم أثرا بعد
عين ، يجهزها الآن لتكون منطقة خيام كبرى لذات العدد الذي كان بها قبل تدميرها
بشكل نهائي .
عقد بنيامين
نتياهو يوم أمس الأحد العاشر من آب مؤتمره الصحفي والذي أعاد فيه التأكيد على
العناوين والخطوط العريضة الخمسة لنهاية الحرب في غزة ، بصراحة ووضوح وبلا مواربة
، تجريد حماس من سلاحها ، إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين الأحياء والأموات ، إقتطاع
منطقة أمنية عازلة من أراضي غزة ، سيطرة أمنية على القطاع بمعنى حرية الحركة داخل
محاوره ، إقامة حكم مدني عربي لا يتبع حماس ولا السلطة الوطنية الفلسطينية ، أي
بمعنى آخر فعلى حماس أن تقبل بهذه الإشتراطات بشكل مسبق ذهبت الى صفقة أو رفضتها ،
وعلى العرب الذين يرغب بمشاركتهم بحكم غزة مدنيا وليس أمنيا بأن يعرفوا أيضا بإن
مقترح عودة السلطة الوطنية الفلسطينية الى غزة بدعم عربي ودولي فهو مرفوض مسبقا ، وبشكل
مواز لهذه البروبغندا الإعلامية التصعيدية ، يضيء اللون الأخضر للمبعوث الأمريكي
ويتكوف بمباشرة إتصالاته لإتمام صفقة جزئية أو كلية يعرف مسبقا بإنها لا تصل لشيء ،
سبقه لهذا المؤتمر تصريحات علنية لثنائي الصهيونية الدينية ، يشكك سموترتش بنوايا
بنيامين نتياهو وجديته لخوض جولة جديدة لحسم الحرب وان ما يطلقه من تهديدات هي
مجرد ضغوط على حماس للذهاب الى صفقة ، بينما يطالبه بن غفير بالبدء بتفكيك السلطة
الوطنية الفلسطينية وذلك لسماعه عما رشح من مداولات داخل الكابينيت بإن بنيامين قد
يذهب في مرحلة ما لقبول وجود السلطة الوطنية الفلسطينية في حكم غزة لإنعدام
البدائل بمطلق الأحوال .
تشير كافة القراءات الى أن الفجوة بين مواقف
حماس وبنيامين نتياهو تزداد إتساعا كلما إقتربت الحرب من نهايتها ، وباتت الجهود
العربية والدولية تصطدم بحائطا صد من قبل حماس وبنيامين نتياهو ، لمعرفتهما المسبقة بإن نهاية الحروب الصفرية
من هذا القبيل لن يكون فيها سوى طرف منتصر وآخر مهزوم ، وفي مثل هذه الحالة فهما
بحاجة الى جولة جديدة من الصراع الدامي في قلب مدينة غزة ومخيمات وسطه أيضا ،
يراهن فيها بنيامين نتياهو على تدمير آخر معاقل حماس وما تبقى لها من مقاتلين وفرض
شروطه بالقوة حتى لو كان الثمن موت الأسرى الأحياء وإنتشالهم جثثا هامدة ، وتراهن
حماس على عدم تمكين بنيامين نتياهو من تحقيق أهدافه وتتمكن من الصمود في هذه
المواجهة ، رغم فداحة الخسائر التي سوف تتلقاها ، وان تتمكن من المحافظة على بعض
الأسرى الأحياء في نهايتها ، لتتمكن لاحقا من الجلوس على طاولة المفاوضات وتفرض
حضورها في المشهد ، معتمدة على تجارب سابقة لعمليات مكثفة قام بها الجيش
الإسرائيلي في جباليا والزيتون والشجاعية ....الخ ، ولكن أين أهل غزة من كل هذه
المعادلة ، ومشروع ترحيلهم قصريا نحو الجنوب مجددا !!! فهل بقي من هو قادر حتى لو
رغب بالرحيل من الشمال الى الجنوب لفعل ذلك ، وأن قرر المغامرة والبقاء في الشمال
وسط القصف والموت ، فما هو الثمن الذي سيدفعه هو وعائلته وأطفاله لقاء ذلك ، بعد
كل هذه الأثمان التي دفعها بعد اثنا وعشرون شهرا من حرب لم تبقي ولم تذر من طاقة
لفعل ذلك .
خلاصة القول :ـ
أما والحالة هذه فإننا قد إقتربنا مع الذكرى الثانية لحرب الأساطير
والتي اراد منها بنيامين نتياهو بأن تجهز تماما على مشروع البقاء الفلسطيني كشعب
موحد يحلم بإقامة دولة ، فماذا نحن فاعلون
؟ لقد وصل صراخ إثنان مليون ونصف فلسطيني عنان السماء ، ولكنه لم يلامس سمع حكام
أمر واقعهم في غزة ، فلا تكاد تسمع سوى عبارة واحدة تتردد على لسان السواد الأعظم
من هؤلاء المعذبين في الأرض ، اوقفوا الحرب بلا زيادة ولا نقصان ، وضع العرب
والسلطة الوطنية الفلسطينية لحماس سلم للنزول عليه بأقل الخسائر الممكنة ، ولكن
هذه الدعوات لم تلامس أيضا مسامعهم ، لإن من تغذى على منتجات سلسلة مصانع الأوهام
المنتشرة في الوطن العربي ، وماركتها المسجلة حصريا بإسم الإخوان المسلمين ، والتي
أوصلتنا الى الحالة الراهنه ، هي وليدة فكر قابل لتصديق أن الرسول المتوفي قبل
أكثر من الف وأربعمائة عام قد قدم محمد مرسي عليه ليأم المسلمين للصلاة في ساحات
رابعة ، وشاهد خالد بن الوليد يقود الجيوش هناك ، هو من يصدق اليوم أن خليل الحية و فتحي حماد ومحمود الزهار
والنونو أو من سيتبقى منهم ، سيقودون جيوش الأمة الى القدس والأقصى ، فماذا بوسع
بنيامين نتياهو أن يتمنى أفضل من ذلك ، ولم يوقف الحرب ؟ فقد قدموا له فرصة العمر
ليحقق أكثر مما تمناه بكثير ، وسيحافظ على هذا المنطق والفكر ما إستطاع لذلك سبيلا
، بدعوى محاربتهم ، فوجودهم تهديد لإسرائيل ووجودهم هو ديمومة سيطرتها وإحتلالها ،
فمن يستطيع أن ينكر بعد السابع من أكتوبر روايته بكل الإرتكابات التي تمت في غلاف
غزة ، وهو من لا يستطيع أيضا أن ينكر أنهم قدموا لبنيامين نتياهو الرواية الذي
إعتاش لثمانية عشر عاما ، قد سبقت ذلك ، وقدم لهم بدوره كل ما يلزم للبقاء على قيد
الحياة ، إنها سياسة التخادم بأبشع صورها ، وما دام هذا الفكر هو السائد في غزة
فالأسوء لم يأتي بعد .
تعليقات
إرسال تعليق