القائمة الرئيسية

الصفحات

 


تطبيع مع الموت

شمالا جنوبا شرقا غربا ، فأينما وليت وجهك فثمة مصيدة لإحدى صنوف الموت ، بالقصف بالمرض بالجوع بالعطش بالمساعدات بالقهر ، ففي غزة لا تكاد تجد أحدا إلا ويتذكر بسهولة عدد المرات التي إرتحل بها ، فلكل إرتحال  حكاية قهر محفورة في الذاكرة ، بات قاموس الموت فائض الإزدحام ، فوسط زحام سرديات اللغة للإعلام الموجه ، فثمة تطبيع قد حدث قصدا وبغير قصد ، مع كل هذا الموت والدمار والعنف ، ففي أرض فائض الموت ، فلا غرابة لشهوة الموت السريع ، فأن تصاب بإصابة بالغة في غزة ، فهو يعني ببساطة الموت لعدة مرات في اليوم الواحد ، فكيف إذا كان هذا المصاب أحد أطفالك ، ولا تملك أن تفعل له شيئا ، بل لا تملك أن توفر له وجبة طعام ، ولا شربة ماء صالحة للإستخدام الآدمي ، ولا سقف يقيه حر الصيف وبرد الشتاء ، وقد ترى بعينك المساعدات التي هي من أبسط حقوقك ، تباع أمام ناظريك على جنبات الطرق بأسعار لا تمتلك منها شيئا ، وفوق كل ذلك تذيع على مسامعك أحد المسيرات أو قصاصة ورق ساقطة من السماء ، أو تطبيق بات ملازما لكل من يحمل هاتف خليوي ،  بإن خيمتك باتت موجوده منذ الآن في منطقة مصنفة بالحمراء ، وبات عليك الرحيل والا ستعرض نفسك لموت محقق ، وستكون وأسرتك أو من تبقى منهم رقما إضافيا في عداد الموت ، شهيدا وربما ضحية أو خسارة جانبية وفق مقتضيات التسمية في عرف أباطرة حرب الأساطير ، فإن كنت وافر الحظ فستكون أحدا من هؤلاء ، لكن وبعد الإنتهاء من مراسم الأرقام فستصبح عبأ ثقيلا على من تبقى ممن يقتضي عليهم مواراتك الثرى ، لتوفير مال بات متعذرا ثمنا لحفرة ، وأن كنت وافر الحظ وكنت غصنا مقطوعا من شجرة مسحت من سجلات العاملين عليها ، فستحظى بدفن من قبل مؤسسة أو جمعية أو فاعل خير وحتى مبادر من فصيلة التكتوك وأحد أخواتها ، أو ربما تاجر فاجر كصدقة جارية عن روح أحد والديه بأموال سرقها من قوت عيالك  ، ليوفروا مثل هذا العناء بتوفير حفرة لراحة كانت تسمى يوما مكانا للرقود بسلام ، أما في غزة فقد تجد نفسك على منضدة المتنافسين على فرز الجثث ، بتهمة الموت متخفيا لجثة مخبئة لشلومو أو ديفيد ، فإن تم تبرئتك من التهمة فستعاد بكيس غير معرف هذه المرة لتدفن في مكان ما في أرض الموت ، وعليك أن تصلي إبتداءا منذ الآن أن لا تبرأ من التهمة وأن تخطئك البيولوجيا ضمن هوامشها ، فستحظى بدفن بمراسم ، وستجد من لديه الوقت ليبكيك ويكرمك ويسمعك أيضا ترانيم مهيبة  ، وستحظى بدفن في أرض ليست غريبة عليك ، فقد يكون قد سكنها والدك أو جدك لأبيك أو جدك لأمك ، فهي لن تختلف كثيرا  فلها نفس الرائحة ولن تشعر بها بأي خوف ، وستجد من يلقي عليك تحية دورية وباقة زهور ، وحتى من دفنت بإسمه فهو قد يكون شقيق قاتلك ، فلا بأس أيضا ما دام ابراهيم هو الجد الأعلى لكليكما ، فكلاكما أحفاد تعيسي الحظ ووقود لحرب الأسطورة  ، تم الدفع بكما لخوض غمارها ، في ذروة لعبة المصالح الكبرى وتنازع النفوذ وصراع البقاء ..... إرقد بسلام وإتركهم يعيشون يوميات حربهم بطولها وعرضها ، فسردياتهم الممجوجة لم تعد صالحة لمثل هذا المقام ، فخصومتك الآن باتت بين يدي قاضي السماء ليفصل فيها ، فهناك لن تسمع أي من مصطلحاتهم وابداعاتهم اللغوية المزيفه ، سموها مركبات جدعون واحد أو إثنان ، حجارة داوود أو عصا موسى ، سموك خسارة جانبية أو شهيد ، ديفيد أو داوود ، مواطن لم يتم التحقق من براءته من الحرب أو مواطن لا علاقة له بالحرب من قريبها أو بعيدها أصلا ، فلا حاجة هناك لمحاكمهم التي لا تنصف أحدا ، ولا محاميي دفاعهم ، فستقول كل ما تشاء ، بلا خشية ولا رهبة ، فسيكون شاهدا على قبح ما فعلوه لك ، جوعك وخوفك ، مرضك وعطشك ، ألمك وعجزك فكل في كتاب لم يترك صغيره ولا كبيرة الا أحصاها .

أما من هم على قيد الحياة ، فباتوا يعرفون مسبقا أنه وفي الحروب سرعان ما تفعل لغة المصطلحات اللغوية فعلها ، فما بالكم أن كانت فصلا من فصول حرب الأساطير ، فسرعان ما ستستدعى المصطلحات اللغوية المستنسخة من كل المقدسات ، فكيف سيكون عليه الحال أن كانت المقدسات من منبت واحد ، فالله وأنبياءه ورسله وكتبه التي يتقاتلون بإسمهما ومن وحيهما ، هي ذاتها مع بعض الفروقات لغايات التميز وبما يناسب لغة العصر ، فالصراع على أرض قد تتسع لكليكما وتفيض لو وزعت بعدالة ، ولكن البشر بطبيعتهم يرغبون بدفع إثمان باهظة قبل الوصول الى الحكمة والتعقل ، فمنذ بدء الخليقه وبكل المقدسات ومنذ أول جريمة على ظهر الكوكب كان هذا حالهم وسيبقى وحتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ، أنهم يخوضون حرب مصطلحاتهم المعقمة والمطهرة وإعطاءها صفة القداسة ، حتى يبدو أن مجرد إعتراضك على موتك خللا في المقدس وإعتراض على قوانين السماء ، وحتى جثتك المقطعة إربا في عرفهم هي ضرر جانبي لمدني لم يتم التحقق من براءته في معركة  مقدسة للدفاع عن النفس ، ومعهم أطفالك الذين سبقوك الى هناك وحتى الجنين في رحم زوجتك فينطبق عليه ذات المصطلحات ، أما إن كنت وافر الحظ فسيعترف العالم المتحضر بإنك ضحية لحرب إبادة ، بالسلاح الذي يرسلوه هم بأنفسهم لقاتليك ، ولكثرة ما إستخدموه بات بضاعه كاسدة لا تسوى شيئا في سوق النخاسة السياسية ، لا تمنع قتلا ولا تطعم جائعا ولا تروي ظمئا .

يا لهذا الجنون في ثقل حرب المصطلحات ، وهي تديم المرارة وتعمق مشاعر الضحايا بالقهر والرغبة بالإنتقام ، فبخيالهم المريض يفترضون بإن عليك وحتى تمتلك هوية مواطن بريء وقبل أن تتساقط حمم الموت على رأسك ، أن تمتلك مهارات خارقة وإستثنائية  ـ أولاها بأن تعرف مسبقا أن تتحقق من الناس الذين تتواجد على مقربة منهم في السوق والحي وفي طابور المصطفين على التكايا ورغيف الخبز وجالون ماء  ، وأن تتمكن من معرفة المواعيد المحتملة لسقوط أحدى حمم الموت لمدة اربعة وعشرون ساعة في النهار وثلاثون يوما في الشهر وسبعمائة يوم من يوميات الحرب ، لقد قالوها بصوت خافت بإن لا أبرياء في غزة فكل من يسكن هذه الأرض أو يولد عليها ليس بريئا ، وحتى الأجنة في أرحام أمهاتهم لا يحملون صفة مخلوق بريء فسرعان ما يكبر وقد يكون مقاتلا محتملا ، وفي حالة كهذه فما عليهم سوى إخراجهم من هذه الأرض وتوزيعهم على دول العالم الذين لا يرغبون بإستقبالهم ، ومهما حاولوا ، فحتى جنوب السودان التي هي في ذيل التصنيف العالمي للدول المستحدثة ، فأعلنوا بإنه ليس بمقدورهم إستقبال نفايات بشرية ، فلا غرابة فهذا هو زمن الإستبداد والصفقات الكبرى .

إنهم ماضيين بحربهم حتى منتهاها  ، وسيخترعون كل يوم سببا آخر للمضي قدما  بها ، وستسمع من المصطلحات ما لم يخطر لك على بال ، لا يأبهون لكل الصارخين في هذا العالم ، أوقفوا  هذه الحرب اللعينة ، فهم يعرفون بإنه وبمجرد توقفها ستبدأ حملات القصاص لكل ما جرى وممن أوصلنا  لهذه الحالة والى ما نحن عليه ، وستفقد مصطلحاتهم كل معانيها ، وسيكتشف ما حرصوا على أن لا تسمعه ، فهو يرغبون فقط بإعلان إنتصاراتهم الكاذبة فوق كل هذه الجثث ، فسرعان ما يختلقوا مصطلحات جديدة ليبتدأو بالتحضير لفصل جديد من فصول حروب الأساطير ، بذات الأدوات والشخوص وبأساليب مبتكرة .

تعليقات