القائمة الرئيسية

الصفحات

 



  في موسم الهجرة الى الجنوب

ما أن غادرت آخر الوفود الستة والخمسون من دول العرب والمسلمين أرض الدوحة  ، ومعهم عدد معتبر من قيادات ومنظمات العمل العربي والإسلامي والدولي المشترك ، تاركين خلفهم صدى كلمات ضج بها المكان وسبعة صفحات من مثلها لخصا بيان ختامي وبكل لغات الأرض ، تضمن كل شيء مما تشتهيه الأنفس من عبارات تم تطويعها للإشادة والتضامن ورد الإعتبار لصاحب الدعوة ، والإستنكار والغدر والحماقة  والإبادة لصاحب الفعل ، وكأن حال لسانهم يقول ، هذا هو أقصى ما يمكننا فعله ، ورغم كل شيء سنبقي على شعرة معاوية متصله مع من يرفض منطق السلام والتسويات ، وعلى الدفة الأخرى هناك في القدس وقف صاحب الفعل وحيدا مع آخر من تبقى له من حلفاء ، ولكنه كنز يساوي بثقل بلطجته وحماقته العالم بأسره ، يتجول به فوق الأرض وتحتها ليملأ رئتيه بعبق التاريخ والأساطير ، الا من جدار قامت عليه ثورات وفاضت بجواره دماء كثيرة ، ليضع به قصاصة ورق بصعوبة تقبل أن تسكن المكان لكثرة ما عبثت به الأيدي ، لتحشوه بالأماني من كل حدب وصوب ، يتبارك بلمسه السياسيين والديبلوماسيين وكل من لديه شهوة الحكم في واشنطن ، ومؤتمرا ختاميا بلا بيانات له عنوان واحد ووحيد ، فإما إشتراطات خمس لا تنقص واحدة وقابلة للإضافة عليها وفق ما يستجد ، أو دونها المضي قدما بحرب الأسطورة على كل شئ ، حتى وإن كان من تبقى من بني جلدتمم هناك في سراديب الموت ، الذين بات ذويهم ليلهم قبالة مقر إقامته ليقضوا مضجعه ويوسعونه وزوجته شتما وتحقيرا ، فيغادر المكان إحتراما للعبة الديمقراطية حتى في ظلال حراب الموت ، مصحوبا بزوجته حتى لا يستمع الى كل ما يقال ، فهي ترهات لا وزن لها قياسا بمخرجات حرب الأسطورة والأحلام العراض ، وما هي الا ساعات حتى تحط طائرة مفوض خارجية قيصر على أرض الدوحة ، بعد أن غادر كل من يقف على الجانب الآخر من التاريخ ، متسلحا بمباركة كهنة المعبد وجرعات قداسة ، ليتمكن من صياغة الكلمات بما يلزم من تطييب خواطر الغاضبين وحفظ ماء وجههم ، وعدم الإشارة من قريب أو بعيد لإدانة الفعل أو تسمية فاعله ، والتعمية على كل ما يقال من لغة المنطق بالشراكة به ، أما الغاضبين فيكفيهم بإن زارهم ضيف فوق العادة ليحتسي قليل من قهوة ويسمعهم ما يطيب من كلمات الإشادة ، فهكذا يكون وحسب العادات العربية المتعارف عليها ، من داس بساطنا فقد أوصلنا حقنا ، أما الموتى ومن تأذى بالمصاب الجلل فصاحب الأرض والسيادة كفيل بالإغداق عليهم بما يرضيهم ، أما آخر التمنيات للزائر فوق العادة فهو المزيد من الضغط على المقيمين في دار حسبوها يوما دار ابا سفيان ، لإنتزاع ما عجزت عنه مركبات جدعون واحد وإثنان حتى الآن ، أما المعذبون في الأرض هناك في أرض فائض الموت فحدث ولا حرج ، فلم يعد شريط العواجل يتسع لها فما كاد الزائر فوق العادة ينهي آخر كلماته في مؤتمر فائض الود في القدس ، وما كاد  مؤتمر فائض الود والغضب ينهي أعماله ، حتى تعاظم القصف من كل حدب وصوب من السماء والبر والبحر ، بكل ما تشتهيه أنفس المتعطشين للإنتقام دما وموتا ، فعداد الموت يرتفع وعلى مدار الدقيقة وبكل الألوان والصنوف ، وتتساقط المباني كما الناس ، وتزدحم الطرقات بشتى العربات المتهالكه وسيرا على الأقدام ، وفي حسابات جيش الأساطير فإن خروج اربعون أو خمسون في المائة من البشر المكدسين في غرب غزة ، بات معقولا كحد أدنى للدخول الى المرحلة الثانية في هذا الفصل الأكثر دموية ، فلا قتال على الأرض مع أحد ، يحول دون تمدد آلة الحرب في عمق غزة المعز ، سوى جيش الهائمين على وجوههم ، المرهقين من نوائب الخذلان المتشبثين بالمكان ، لأن الخروج هذه المرة يعني فيما يعنيه بإن لا عودة ثانية له ، ومن جنوب الى جنوب ، فموسم الهجرة الى الجنوب قد إنفتح ، ولا عين إلا على جنوب واحد لا غير ، في إنتظار تغير أحوال قد تأتي ولا تأتي كما يشتهي الحالمون .

في حمى هذيان القوة والحروب المفتوحة بلا نهايات ، فقد نبش رأس حكومة الأساطير في التاريخ ، فوجد أخيرا ما قد تسعفه به بطون الكتب ، فإستحضر اسبارطة كنموذج لمدينة قوية بنت جيشا حارب لعقود من الزمن ، وإن كان من دلاله قد تحظى بشرف المناسبة ، فقد أتبعها بما لا يدعمها ، حين إشتكى للزائر فوق العادة عن الحصار السياسي والإقتصادي والأخلاقي الذي وصلت اليه ألأحوال ، ونيته تخصيص موازنات لغايات تبييض صفحات قد إسودت بأفعال مشينة يندنى لها جبين البشرية وعلى الهواء مباشرة ، حتى طالت الفعل والفاعل ، وإستشراق مستقبل لإقتصاد يتأهب لأن يكون مغلقا بشكل دراماتيكي ، ولا بد أن خطر بذهن الزائر فوق العادة ، إين هي إسبارطة اليوم التي لربما لم يسمع بها أحدا ، فما بقي هي أثينا وريثة حضارة الإغريق العريقة بكا أمجادها وخيباتها ، أما وحشية الإنتقاء للطفولة والقضاء على العجزة وأصحاب الحاجات ، فقد بات فعلا مستترا يخجل أحدا أن يذكره أو ينبش في التاريخ لإستحضاره ، ولكن ما أن تشيخ الدول مبكرا بفعل عقلية التوسع والهيمنة دون حدود وضوابط لسكرة القوة ، فها هي النتائج المحتومة لها ، وحتى من وجهت لهم الرسائل ليستدعي ردودا عليها ، فهم وهم في طريقهم الى الجنوب محملين بكل أشكال وألوان صنوف الموت ، فقد أنعش في ذاكرتهم بشحنة عاصفة  ، بإنهم لم يعد لديهم ما  يخسروه ، سوى قيد وخيمة وليل منسيين به وذل طابور يصطفون على أبوابه لقاء لقمة عيش حرموا منها كما بقية البشر ، حذره منها حتى عتاة من حكموا دولة إسبارطة الجديدة ، وباتت مادة للتندر في وسائل الإعلام المحلية والدولية التي تسعى لضخ المزيد من الأموال عليها ، لتبييض صحائف مسودة عصية على كل وسائل التبييض .

لقد أضاف جهل الضيف بالجغرافيا السياسية والتاريخ للمضيف جهلا على جهله ، فهما خريجان لمدرسة فكرية واحدة ، قوامها كراهية الآخر ، متناسين وهم يتحدثان بالتاريخ والجغرافيا السياسية ، أنهم قادمان لأرضان لا تربطهما بهما سوى حلم وأسطورة ، فالضيف المنحدر من أصول لاتينية كوبية والذي يؤمن اليوم بإغلاق بلده الجديد أمام المهاجرين الجدد الساعين نحو حلم قاد والداه البيولوجيين له ، والمضيف المنحدر من أصول بولندية الساعي لطرد أصحاب الأرض الأصليين منها ، ومن هنا فلا غرابة أن يشاركه إفتتاح سرداب هناك ، ووضع قصاصة ورق في شقوق جدار ، وأمر عمليات لهدم بنية حضرية لشعب آخر لدفعه الى الرحيل من أرضه لتكون خالصة لشعب آخر ، فليس غريبا على من تخرج من مدرسة تؤمن بضم كندا وغرين لاند كفكرة قابلة للتحقق ، أن يؤمن بإن فكر السراديب وهدم البنية الحضرية لشعب آخر قابل للتحقق ، فعندما يبتلى أهل الأرض بهذه العقول في زمن الذكاء الصناعي ، فلا بد من مراجعة ولحظة تأمل من أصحاب الفكر ، لسبر أغوار كيفية وصول البشرية الى هذا المستوى من الإسفاف الفكري .

وعلى هوامش كل ذلك ، فلا يخلو المشهد بشيء من سخريات رسائل ، لعلها تخفف من غلواء بعض المتفلتين والغاضبين ، وأخرى تزيد المشهد تلطيخا بطين مبلول يداري عيوب مشهد لا يراد له أن يقرأ كما هو ، فالمتواطئ على الضربه يسيل لعاب الحالمين بالمجد بإتفاقية دفاع مشترك ، لا تعرف كيف لنمله أن تبني تحالفا مع فيل هائج جائع ، الا إذا كان ضد حليف آخر هو ألأقرب الى النفس والروح ، وأخرى توقع إتفاقية دفاع مشترك مع أخرى لإعادة التوازن للمشهد ، لتقول بإن لدينا من الخيارات ما يمكننا للإستغناء عن سارق ترليوناتنا الذي  لم يسعفنا عندما إحتجنا اليه ، وذاك القادم من زمن عصا موسى وأهل الكهف وأصحاب الأخدود يوزع ويشرح كيف ستقتسم أسبارطة الجديدة مع قيصر القرن الحادي والعشرين صفقة عقارية كبرى رابحة بعد الإنتهاء من ورشة الهدم الكبرى ، والمعتدى عليه يطير على عجل الى عمان ليبحث حمل جزء من العبأ عن أرضه بإستقبال من يحملون جنسيته منهم  ، وأخرى لا تخجل برفع يدها للمرة السادسة في غضون عامين ضد إرادة اربعة عشر دولة ، تقول كفى لكل هذا الموت والدمار ، في بيت منظومة إنشئت بالأصل لحفظ السلام والأمن الدوليين .    

لم تعد القضية متعلقة بأصولية فكرية تسللت الى حياة المعذبين في الأرض من حقبة السرطان الأحمر ، هناك في كهوف المناهضين لفكر ماركس وإنجلز ، والذين صنعوهم ومولوهم وأوصلوها للحكم ليحاربوهم تاليا ، كمن يصنع تمثالا من تمر ليلتهمه حينما يشعر بالجوع ، لتتعدى محاربة قبح أفعالهم التي تأذى منها قبلا جموع المعذبين في الأرض ، ولكن وبما أن ما سلف كان في خدمة المصالح فلا ضير في ذلك ، بل مكافئتهم على قبيح أفعالهم بمزيد من التمدد في أرض النفوذ والمصالح ، أما حينما تتعداه الى ملامسة خطوط حمراء ، فيكون الثمن ليس هم بحد ذاتهم بل الأرض التي تم تشتيلهم واستزراعهم بها ، فقد باتت واجبة التطهير في عرف أباطرة الحرب ، لدفن الماضي والحاضر والشواهد على كل ما كان في غابر الزمان ، بصناعة نكبات جديدة ، حتى يمسي الحديث عما كان من فائض وترف القول ، لا يسمن ولا يغني من جوع .

على هامش زيارة الأحلام لأرض أمبرطورية كانت يوما لا تغيب الشمس عن حدود نفوذها ومصالحها ، فيجاهر بإختلافه النادر مع أحد أحفاد فكرة إقامة وطن للهاربين من هولوكست التفوق العرقي ، وحتى حينما يصحو وريث أمبرطورية قد أفلت ، بعد سبات عميق على وقع تغييرات جارفة في العالم بأسره ، فيقول له أن هناك أشياء سيئة قد تحدث ، أو بمعنى آخر بإن لا جدوى من مجرد لفتة لم تعد ضرورية ، فعلى الطاولة مشروع صفقة عقارية كبرى من حقنا نحن ونحن فقط ، ففاتورة الهدم قد دفعت من جيوب دافعي الضرائب في بلد الأحلام والفرص .

لا يتعلم المستبدون من التاريخ شيئا ، رغم كل الحتميات التاريخية التي نقلتها لهم بطون الكتب ، فالإتكاء على مظلوميات تاريخية إستهلكت عن آخرها ، لن يدوم طويلا ، في عصر الصورة والصوت والتي لا تخطئها عين من أراد قراءة الحقائق على الأرض كما هي ، لا كما يشتهي من يعيشون خلف التاريخ .        

تعليقات