القائمة الرئيسية

الصفحات




 حرب الأسطورة وذكراها الثانية

مليونان ونصف من البشر ، على مساحة ثلاثمائة وخمسة وستون كيلو متر مربع ، سبعمائة وثلاثون يوما ، تحملوا فيها من ألوان المعاناة مما لا يطيقه البشر ، شاهدها العالم بالصوت والصورة ، بات الحديث عنها وتكرارها وبث مشاهدها هو إضافة معاناة وألم يومي لكل ما سبقه ، تتبارز المؤسسات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني على إصدار كشوفاتها ، لما أحدثته حرب الأساطير ، مفزعة مرعبة غير مسبوقة في التاريخ البشري ، فهو أقل ما يمكن أن يقال فيها ، عدا عما أحدثته من إنهيارات كارثية في منظومات الصحه والتعليم والبنية المجتمعية والنفسيه والسلوكية والأخلاقية .... لاحت وكما يظن البعض فرصة نادرة لوقف كل ذلك ، فيما إصطلح على تسميتها بخطة ترامب ، والدخول الى عامها الثالث بلا كل ذلك ، ولكن وببالغ الأسف فإن من ينحو إلى هذا المنطق من التفكير ، لا يعرف طبيعة الصراع الجاريه فصوله على الأرض ، إنها خلاصة صراع مشاريع وتحالفات بنيت على مدى عشرات السنوات ، وأن كل ما فعله أهل الطوفان هو مجرد فتح ثغرة في جبل متصدع أساسا ، فإذا به ينهار على رؤؤوس كل من كان بجواره ، نجزم قطعا بإنهم كانوا يعرفون بإنهم كانوا يجرون خلاصة تجاربهم في مكان شديد الخطورة ، كما نجزم قطعا بإنهم لم يكونوا على دراية بكل هذه الإرتدادات التي من الممكن أن تحدث على الأرض ، لا لناحية الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات ، ولا لناحية طول هذا الفصل الأكثر دموية من الصراع ، ولا لناحية قدرة تحالفاتهم على الصمود ، ولا كيفية فهم حكومة الأساطير لمحدثات صبيحة السابع من أكتوبر ، بل كيف سترد عليه أيضا . 

أما وقد كان ما كان ، فإننا بتنا أمام واقع ومتغيرات جيوسياسية كبرى تفعل فعلها على الأرض ، وأن التعامل معها بالتجميل والتذاكي وألتراشق بالمسؤوليات ، بات دربا من الآمال التي لا أساس لها سوى في الخيال ، فالحقائق التي يجب التعامل معها ، هي أننا أمام مبادرة عرضت على العرب والمسلمين بحال ، وخرجت بعد مصادقة بنيامين نتياهو عليها بحال آخر ، لم يتفوه أي من عرضت عليهم مسبقا بإن هذا مخالف لما سمعوه ، وما دام الحال على هذا النحو ، فإنهم باتوا جزءا منها وموافقون عليها بكل ما فيها ، ولم يبقى أحدا من القوى المؤثرة في العالم الا ودعمها ، وأن من سيتعامل معها على أنها قابلة للتغيير والتبديل في خطوطها الأساسية فهو لا يعرف عن مغزاها ولا مآلاتها شيئا يذكر ، فهي بصريح العبارة وبلا مواربة تحقيقا لأهداف الحرب الخمس المعلنة من قبل بنيامين نتياهو والتي لم تنجزه بعد آلته العسكرية ، وتضع حدا للأهداف الغير معلنة له ، من شهوة إستمرار القتل والتهجير وإعادة إحتلال غزة عسكريا ، ومحاولة لفتح نافذة لبصيص أمل قد يأتي ولا على الأغلب فلن يأتي ، والذي أعتبره العرب والمسلمين ومعهم ممثلوهم الشرعيين الهدف الأسمى لكافة الجهود التي بذلت على مدى عامين بالتمام والكمال .

قد يبدو للبعض ، أن التقاط دونالد ترامب لرد حماس السريع والمفاجئ وتسويقه على أنه موافقة على مبادرته ، مع علمه مسبقا بأنه ليس كذلك ، قد جاء عبثا  ، والحقيقة أنه منسق مسبقا مع بنيامين نتياهو ومع الوسطاء الأتراك والقطريين والمصريين أيضا ، فليسوا على درجة من الغباء لعدم قدرتهم لتقدير موقف بإن حماس ستمسك العصا من وسطها ، فالخطة بنيت أساسا على فتح نافذة لتنفيذ المبادرة ونزع الورقة الوحيدة بيد حماس وهي ورقة الأسرى الأحياء والأموات من يدها ، وأن الصياغة التي ردت بها حماس قد وضعت في فمها من الوسطاء ، لتلبية أسمى رغبات دونالد ترامب لممارسة الشو الدعائي الذي لطالما إستعرض به أمام العالم ، بإنه تمكن من إستعادة الرهائن وأغلق ملفا عجزت الآلة العسكرية عنه حتى الآن ، ويفهمها الوسطاء كإغلاق ذيعة أستخدمها بنيامين نتياهو لعامين قد مضيا ، أما بنيامين نتياهو فيفهما على أنها التحرر من قيود كانت المؤسسة العسكرية تضعها كعراقيل لمزيد من التمدد والقتل بلا حساب ، كما هي أغلاق لفوضى إحتجاجات الشوارع الذي أقضت مضجعه وإستهلكت أسهمه في الداخل الإسرائيلي .

قد تنجح مفاوضات القاهرة المزمع إجراؤها في القاهرة وقد لا تنجح أيضا ، فالوفدان الأمريكي والإسرائيلي يخططون على إقتصارها على الأليات التنفيذية لتنفيذ الصفقة ، بينما تخطط حماس لربطها بضمانات لوقف الحرب لأطول فترة ممكنه حتى يمسي العودة لها مستحيلا ، تارة بذريعة البحث عن الجثث التي دفنت في مناطق بات أهلها لا يعرفون ملامحها ، أو مقتل من قام بهذه المهمة ، ولكن ووفق ما بات معروفا فإن هذه المحاولة لن تنجح ، لإعتبارات عديدة من أهمها أن دونالد ترامب سيفهمها بإنها تسويف  كان قدحذر منه مسبقا ، وأن بنيامين نتياهو يتمناها أصلا ، كما أن الوسطاء سيمارسون كل الضغوطات الممكنه على حماس لثنيها عن ذلك ، لأن معناه بإختصار تحميلها مسؤولية العودة للحرب مجددا وإفشال فرصة سانحة قد لا تتكرر مجددا ، هذا هو الحال مع مطلع البدء بتنفيذ خطة دونالد ترامب ، فكيف سيكون عليه الحال بعد المضي قدما في الخطوات التاليه إن قدر لهذه الخطوة أن تتم كليا أو جزئيا ، بمعنى تسليم الرهائن الأحياء منهم وتأخير عدد من الجثث الذي يتعذر التعرف على أماكن الإحتفاظ بهم كجزء من ورقة رابحه بيدها .

رسم بنيامين نتياهو ليلة أول أمس ملامح مخططه بإن ما لا يتحقق بالمفاوضات فستحققه الأله العسكرية ، وأنه لن يمضي قدما في إستكمال باقي بنود الصفقة ، إن لم يتم تنفيذ صفقة الرهائن بكليتها وفق المهل المحددة بالخطة ، وأكدته فزاعتيه التي إستخدمها لعامين قد مضيا ثنائي الصهيونية الدينية بن غفير وسموتريتش ، بإن بقاءهم بالحكم مرهون بإنهاء ملف الرهائن والعودة مجددا للحرب ، وهو السيناريو الأكثر ترجيحا والمرغوب به ، لعلمهم ودفعهم المسبق لحماس بالمزيد من التسويف الذي إتكأوا عليه لعامين قد مضيا .

هل سيتمكن الوسطاء من أخراج حماس من جلدها ، لإستكمال المرحلة الثانية من خطة دونالد ترامب ، عندما يبدأ الحديث عن تسليم السلاح ، فإن كانت المفاوضات ستجري على قاعدة سلاح هجومي وسلاح دفاعي ، أو تحديد الجهة المفضلة لتسليم السلاح لها دون غيرها أو ربطها بحل الدولتين ، فإنهم سيزفون بشرى لبنيامين نتياهو وأركان حكمه ، بإن إيقاع طبول الحرب ستمضي قدما في لعبتهم الفضلى ، هذه هي المعادلة إن راهنت حماس على خوضها فالنتائج معروفة مسبقا ، وهي أن ما تبقى من هذا العام وما سيليه سيكون القتال فيهما على أشده بل أكثر ضراوة وبلا قيود كما حدث طيلة العامين الماضيين ، وستنتقل الأله العسكرية من شمال غزة الى وسطها بإعتبارها آخر الجيوب المتبقية لقوة حماس العسكرية والمدنية .

إن ما بدأت حماس بإشاعته عن أن ما تبقى من ملفات بعد الأسرى هو مسؤولية الكل الوطني فهو صحيح الى حد ما ، بمعنى أن ترتيبات المرحلة الثالثة من تشكيلات للجان حكم وحفظ الأمن وإعادة الإعمار والإنسحاب الإسرائيلي فهذا صحيح ، ولكن عليها أن لا تنسى بإن المرحلة الثانية التي ستسبقها هي مواضيع لا يمكن لأحد أن يتخذ القرار بها سوى حماس ، فالسلاح بكل أنواعه ، وما تبقى من بنية تحتية للمقاومة من أنفاق بكل ما أحتوته ، وإنهاء مظاهر الوجود العسكري والمدني هما على رأس الأجندة ، ولن تخلوا قائمة المطالبات الإسرائيلية التي لن تنتهي من إصدار بيانات علنية تؤكد إلتزام كل من له صلة بحماس ومعها بقية فصائل المقاومة بكل هذه الترتيبات والتي لا معنى لها سوى أن على حماس وبقية الفصائل أن تحل نفسها بشكل طوعي ، ولا تسمية له في منطق الحروب سوى تسمية وحيدة ، وهو التوقيع على وثيقة إستسلام طوعي ، والا فالآله العسكرية هي ما ستنجز كل ذلك ، فهل حماس وأقرانها من الفصائل على جاهزية لفعل كل ذلك ؟؟ فتنظيم بنى سرديته على الدين وأنه المنتصر دائما ، مهما بلغت الخسائر (التضحيات) ، لا يمكنه القيام  بخطوات من هذا القبيل .

خلاصة القول :ـ

لقد ذهب جميع المتداخلين بتشابكات الحالة الفلسطينية الى قبول التعاطي مع خطة دونالد ترامب كممر إجباري في محاولة للخروج من مأزق وحالة إنسداد ، كما أن لا أحدا منهم لديه توقعات عالية المستوى ، على أن تمضي الخطة قدما حتى نهاياتها ، فالحرب الجارية حاليا ، هي من النوع الذي لا تنتهي الا بإلحسم العسكري ، وبإنتصار غير قابل للتأويل ، أو فشلا واضحا في إستكمالها لتحقيق كامل أهدافها ، فلا يتوقع أحدا أن تكون الخطة أكثر من صفقة لتبادل الأسرى ، وحتى هذه فمن المشكوك بإمكانية حدوثها حتى منتهاها ، وما دامت الحالة على هذا النحو ، فإن الأسوء لم يأت بعد ، وبات على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية  أيضا الى التحوط لكل هذه التداعيات ، فدونالد ترامب لا يعنيه أكثر من أخذ اللقطة ومشاهد الإفراج عن الرهائن ، والدخول للمنافسة على جائزة نوبل للسلام ، وأن أبعد من ذلك فهو يكاد يكون من شبه المستحيل ، إن لم يكن مستحيلا كليا ، فمطالبة تنظيم أصولي وأقرانه بخسارة الحكم والسيطرة والسلاح معا هو درب من الخيال ، فضربتان في الرأس هما قاتلتان بما لا يقبل التأويل ، وأن ذهب لمنحى مستحيل من هذا القبيل فهو سقوط لفكرة محور بكليته من غزة الى طهران كأحجار الدومينو .      


تعليقات