الأردن .....مِنَح الجغرافيا ولعناتها
يقول الكاتب
الجيوسياسي الأمريكي روبرت د.كابلان "عن مفاعيل الجغرافيا وقدرتها على أن
تخلق حياة مزدهرة حيث تغيب الصراعات على الحدود وتختفي تهديدات الجيران القدريين ،
أو العكس فيمكنها أن تكون وبالا على رؤوس أمم وشعوب أخرى" ، وقد كتب كثيرين
أيضا بإن التاريخ هو أبن الجغرافيا ، ومن هنا نشأ ما أصطلح على تسميته بالعلوم
الجيوسياسيه والقاضي بتحليل قدرة قادة الشعوب والأمم الناشئه في مكان ما من تسخير
قوة الجغرافيا لخدمة أممهم وشعوبهم نحو النماء والإزدهار أو الدخول في دوامة
الصراعات الى ما لا نهاية والتي قد يكون إحدى خواتيمها في كثير من الأحيان هو
الزوال والفناء ، وحوادث التاريخ لا حصر لها في هذا المقام .
وفق
تقسيمات سايكس بيكو في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتوزيع غنائم الحرب بين
المنتصرين البريطانيين والفرنسيين على الدولة العثمانية فقد تم تقسيم الوطن العربي
الكبير الى دول وحدود ونفوذ ومصالح لهاتين القوتين المهيمنتين في حينه تحت مصطلح
الإنتداب ، حيث إثمرت هذه القسمة الرضائيه على وقوع الأردن وفلسطين تحت الإنتداب
البريطاني عام 1922 بقرار من عصبة الأمم المتحدة ، والذي سيأخذ بعين الإعتبار
الوعد الذي قطعه وزير خارجية المملكه المتحده آرثر بلفور عام 1917 للورد ليونيل روتشيلد كممثلا للحركة
الصهيونيه بإقامة وطن قومي لليهود على جزء من فلسطين والذي تحقق بعد إنتهاء
الإنتداب البريطاني على فلسطين في العام 1947 والإعلان عن قيام هذه الدولة بعد عام
ووقوع النكبه الفلسطينيه الكبرى وترحيل ألعدد الأكبر من الفلسطينيين الى الجزء
المتبقي من فلسطين (الضفه الغربيه وقطاع غزة) وسوريا ولبنان والى الدولة الأردنية الناشئة عام 1946 وأصبحت
أيضا الأجزاء المتبقيه من فلسطين والتي لم تسيطر عليها دولة إسرائيل الناشئه تحت
الحكم الأردني حتى خسرها الأردن في حرب عام 1967 وباتت تحت الحكم العسكري
الإسرائيلي حتى إتفاق أوسلو عام 1994 والتي يجري الآن إلغاء مفاعليه لإعادة
الإحتلال الفعلي لها .
قامت
الدولة الأردنيه الحديثه بنظامها الملكي وإسرائيل في نفس الوقت تقريبا وتحت مظلة
الرعاية البريطانيه وحاولت بريطانيا بإن تكون هاتان الدولتان الناشئتان وثيقتا
العرى للتعايش الا أن البيئتان المختلفتان تماما وطبيعة عوامل الصراع الناشئة في
محيطهما وبداخلهما أيضا مضافا لها الطبيعة التوسعية لإسرائيل جعل من هذا التعايش
بسلام أمرا بعيد المنال ، فبعد حرب العام 1967 دخل الأردن في مواجهة لإسناد
المقاومة الفلسطينيه المتواجده في مناطق الأغوار الأردنيه فيما أطلق عليه معركة
الكرامة عام 1968 وباتت الحدود الأردنيه مع إسرائيل ومع الضفه الغربيه المحتله من
قبل إسرائيل مسرحا لعمليات المقاومة الفلسطينية وإستمر هذا الحال حتى إتفاق اوسلو
عام 1994 وإنخراط م . ت . ف في العملية السلمية وما أعقبها من توقيع الأردن
إتفاقية وادي عربة مع إسرائيل عام 1996 .
لقد مارست
قيادة الأردن أعلى درجات البرغماتية السياسيه ، وقد إستفادت من موقعها الجغرافي
الى أقصى الدرجات الممكنه ففي كل الأزمات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط كانت
الأردن حاضرة فحرب الخليج الأولى والثانيه وموجات النزوح من العراق والحرب السوريه
والليبيه عرفت أيضا كيف تجعل من هذه المِحن مِنَح وفرص لتطوير إقتصادها حيث تمكنت
من إستقطاب الرأسمال الفار من مناطق الصراع وخلق فرص إضافية لإقتصادها القائم
بالأساس على التصنيع والإنتاج وتصدير الخدمات وهي الدولة شحيحة المصادر الطبيعيه
قياسا بدول الجوار وبخاصة الخليجيه منها .
لقد أولى
خصوم إسرائيل وعلى رأسهم المقاومة الفلسطينيه الوطنية قديما والإسلامية حديثا
إهتماما خاصا بالأردن نظرا لجغرافية الأردن وطول خطوط التماس مع دولة إسرائيل
ونظرا لطبيعة تركيبتها السكانية والتي يشكل الفلسطينيون بها وفق متوسط الإحصائيات
التي قامت بها عدة جهات قرابة 50% وأن هذه الساحه باتت في حالة مد وجزر بين الهدوء
والتوتر إقترانا بحالة الصراع بين اسرائيل وخصومها ولم يشهد هذا البلد أي حالة من
الإستقرار لأكثر من عقد من الزمن وكما أولى خصوم إسرائيل هذه الأهمية فقد أولته
إسرائيل وحلفاءها من المعسكر الغربي نفس الإهتمام فالدعم الأمريكي والغربي حاضرا
بقوة لهذا البلد والتعاون العسكري حاضرا أيضا ولا ننسى أن المظله الأكبر لهذه
الدولة هو توفير مظلة الحماية لعملتها المحلية (الدينار) وربطه بالدولار الأمريكي
.
إن الفصل
الحالي من الصراع والحرب الجارية في قطاع غزة وإمتدادها الى لبنان وضع الأردن
كدولة على المحك وبصورة غير مسبوقة خلال العام الماضي فالحراك الشعبي والإحتقان في
الأردن وصل ذروته وباتت خشية النظام الحاكم أن تخرج الأمور عن السيطره وباتت العديد
من القوى تسعى وبشكل حثيث للدفع بإتجاه الفوضى في الأردن معتقدين أن إحداث الفوضى
في هذه الدولة من الممكن أن يسهم في تغيير معادلات الصراع في الشرق الأوسط متناسين
الأثر الكارثي للفوضى المدمره في بلدان سبقتها الى ذلك كسوريا والعراق واليمن
وليبيا وأنها باتت تصنف في عداد الدول الفاشلة ، والتي لم تقدم أية قيمة تخدم
الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي بل العكس تماما من ذلك .
سعت أيران
كرأس لمحور ما يطلق علية محور المقاومة من وضع الأردن على سلم إهتماماتها وحاولت
التقرب من النظام الحاكم ومحاولة تقديم منح لمشاريع في الأردن وبخاصة مشاريع
المياه التي يعاني الأردن من شح بها للإستغناء عن إتفاقيات المياه بينها وبين
إسرائيل كما الحال بوعودات بتسيير رحلات مكثفه للسائحيين الإيرانيين للأردن لدعم
القطاع السياحي فيه والذي كان النظام الحاكم على وعي بها تماما والتي كانت بمثابة
وضع قدم للنظام الإيراني في الأردن كساحه لصيقه بإسرائيل ويكون بذلك قد عزز وجوده
في الساحات الثلاث اللصيقه به (سوريا ، لبنان ، الأردن) وقد ذهبت هذه المحاولات
أدراج الرياح ، وحينما فشلت كل هذه المغريات من تحقيق أهدافها لجأت الى حركة
الأخوان المسلمين في الأردن وهي الحركة السنيه ذات القاعده الشعبيه الواسعه في هذه
الدوله وبغالبية جمهور من أصول فلسطينيه التي تختلف أساسا معها مذهبيا والتي
تتعايش مع النظام بشقيها وفق صيغ رسختها البرغماتيه السياسيه للنظام وذلك حين سمح
النظام لهم بالمشاركه بالحياة السياسيه والبرلمانيه في الأردن وفق نسب مدروسه
بعناية .
لعبت حركة
حماس وهي الشق الفلسطيني لحركة الإخوان المسلمين دوراً بارزا في نسج تفاهمات مع
الإخوان المسلمين في الأردن لضمها لتكون إحدى القوى المنضوية لمحور المقاومة
بقيادته الإيرانية وما سلسلة العمليات الأخيره بإتجاه أهداف اسرائيلية إنطلاقاً من
الأراضي الأردنية أو العملية الأخيرة بإطلاق النار على السفارة الإسرائيليه إلا
مؤشراً يزداد وضوحاً يوماً إثر آخر الى هذا المنحى ، وكل هذه التحركات جاءت تحت
وطأة المشاهد الصادمة الخارجه من قطاع غزة والتي حركت العالم بأسره فكيف لها أن لا
تحرك الجمهور الفلسطيني الموجود في الأردن قصرا بفعل نكبة العام 1948 ونكسة العام
1967 وما يلوح في الأفق من مشاريع الضم للضفة الغربية والتي يمكن إستغلالها بكل
تأكيد من قبل إيران كدولة لتوسيع نفوذها في المنطقه العربيه كورقة مساومة لفرض
نفسها كلاعب إقليمي في الشرق الأوسط .
إن إختيار
اللحظه السياسيه المواتيه من قبل الإيرانيين وأذرعها في إحداث هذا الإختراق للساحة
الأردنية والتي كانت عصية عليه قبل هذا الفصل من الصراع في الشرق الأوسط سيتطلب
منه تعاملات أمنية من طراز خاص فالمواجهه المباشرة مع أيران وأذرعها والشخصيات
البارزة في جماعة الأخوان المسلمين ستكون محفوفه بالمخاطر الجمة كما هو الحال بالتعامي
عن الخطر الناشئ عن وجود إذرع لإيران وتدفق السلاح لها ، وأن المقاربة الأمنية
للنظام ستتنوع ما بين منع تدفقات السلاح الوارد من خارج الحدود السورية والعراقيه
مع الأردن وكذلك نقله الى الضفه الغربيه والتي يسيطر عليها من الجانب الآخر الإسرائيليين
هذا من جانب ومن الجانب الآخر هو متابعة وتفكيك أية خلايا ناشئه ، ومما لا شك فيه
بإن معركة الرأي العام ستكون أحد الأسلحه المهمه بين يديه ، أما المعالجات ذات
الطبيعه الحاسمه فهي بإنتظار اللحظه التي ستتوقف بها الحرب في غزة وتتوقف معها
تدفق الصور المؤلمه التي تنقلها وسائل الإعلام والتي تؤلب الرأي العام .
خلاصة
القول :ـ
إنها منح
الجغرافيا ولعناتها وأن فن إدارة هذه المنح واللعنات بإقتدار رفع من شأن هذه الدول
وجعلها قوة يخطب ودها الخصوم والأصدقاء على حد سواء ، وأن الأردن وعلى إمتداد
تاريخه تمكن من فعل ذلك وهو ما يدفعنا الى الإعتقاد بإنه سيتمكن من تجاوز الأزمة الراهنه
إستنادا لتجاربه الناجحه في هذا المجال .
إنتهـــــــــــــــــــــــــى .......
تعليقات
إرسال تعليق