الحمقى يندفعون حيث تخشى الملائكة أن تخطو
عندما تغيب الدولة الوطنية الجامعة لكل مكونات أي من
المجتمعات ، فستبدأ معها معزوفات الأقلية والأكثرية تفعل فعلها ، وتبدأ معها
ترانيم التدخلات الخارجية ، وتتسلل مشهدية الحروب الأهلية ذات الطبيعة الإثنية
والطائفية وتداخلاتها السياسية ، والتي إن إندلعت فسرعان ما تحرق مقدرات الشعوب عن
آخرها ، ولكن وبعد فوات الآوان والغرق في وحولها ، فقط يمكن القول بأن أي تنازلات
لو قدمت لمنع وقوعها ، لكانت رخيصة أمام عواقب الإنزلاق لدوامتها الكارثية ،
وحينها يقال بإن هذه الدولة أو هذا المجتمع قد دخل عتبة نادي الدول أو المجتمعات
الفاشلة ، ومما لا شك فيه بإن واقع العرب الذي يحول بينهم وما بين كونهم أمة واحدة
، هو غياب الدولة الوطنية في بلدانهم بدون أية إضافات أو إستعارات ، مستمدة من
تشريعات يحكمها أفق الأكثرية والأقليية أو شرعية السلاح وأصحاب الفضل في التغيير ،
فقبل الحديث عن تدخلات الخارج ، فمن باب أولى معالجة تناقضات الداخل ، فكيف لمسيحي
، علوي ، كردي ، درزي أو سمه ما شئت أن يشعر بالمواطنه وأن حقوقه مصانة وفق
الدستور والقانون ، ما دامت الدول قد صممت مسبقا منظوماتها البيروقراطية على خلق هذه
الفروقات والتمايزات ، وكيف لأفكار الإسلام السياسي أن تسوس هذا التنوع ، وهي تحمل
في أصل تأصيلها الفكري بذور التناقضات وإثارة مخاوف الأقليات ، التي يقوم على
التكفير والتشكيك في الولاءات ، والتفريق بين الناس بشكل مسبق ، إذن فهي الوصفة المثلى
للحروب الأهلية بكل أشكالها وتداعياتها ، وليس من حق كائن من كان ، أن يبحث عن
عوامل خارجية مساعدة لتأجيجها ، كمن يغفو الى جانب برميل بارود ، ويفتح تحقيقا بعد
وقوع الكارثة للكشف عن هوية من قام بإلقاء عود ثقاب في جواره .
سقط نظام عائلة الأسد البعثي بعد حكم دام لأكثر من نصف
قرن بتوافقات دولية ، وبعد حرب أهلية طاحنة وصراع على السلطة ، تداخل فيها السياسي
بالطائفي لمدة اربعة عشر عاما ، وبتوافقات دولية أيضا تم تمكين هيئة تحرير الشام
وعلى رأسها أحمد الشرع ، كأحدى منظومات الإسلام السياسي من حكم سوريا ، والأغرب من
كل ما تقدم هي مطالبات العالم لهذا المكون من تغيير طبيعته ، معتقدين أن أحمد
الشرع سليل القاعدة والنصرة وهيئة تحرير الشام ، وثيق الصلة بأجهزة الإستخبارات
الكبرى المهيمنة ، المعين حاليا رئيسا لسوريا بالتوافقات الدولية ، الراغب في
مغادرة مربع كل ماضيه ، نحو عالم السياسة الدولية والأضواء ، على أنها أسباب كافية
لحالة التغيير المطلوب ، غير مدركين أن أحمد الشرع والمجموعة الصغيرة المحيطة به
لن يتمكنوا من فعل ذلك ، فعلى الأرض هناك مجاميع مسلحة قد تربت لسنوات عديدة على
مبادئ راسخه في الوجدان الجمعي لها ، على الأعلى والأدنى والتكفير والتخوين لكل من
يخالفهم الرأي ، وهم بقوة السلاح الذي بين أيديهم باتوا براميلا للبارود ، ينتشرون
في غالبية المناطق السورية ، لن تسمح لهم تربيتهم الفكرية بالتغيير بين ليلة
وضحاها ، ومن شاهد مقاطع الفيديو المنتشرة كالنار في الهشيم من مشاهد السويداء ،
وما سبقها من أحداث في الساحل السوري التي تحط من الكرامة الإنسانية ، يستطيع فهم
ما سوف يتحضر له السوريين في قادم الأيام
.
لطالما داعبت لعبة الأقليات أحلام قادة اسرائيل ، في
الداخل وعند قيامها قبل سبعة وسبعون عاما ، وفي الخارج وبذات العقلية ، فمن لبنان
الى السودان الى العراق الى ايران الى إفريقيا ، وفي جميع أنحاء العالم وغالبية
الصراعات الإثنية والطائفية والسياسية التي إنتشرت في تلك البلدان ، كانت أجهزة
الأمن الإسرائيلي وجهاز الموساد حاضرا فيها وبقوة ،لإستغلالها بما يخدم مصالحها
العليا ، وقد نافست دولا عظمى بهذا الشأن بل تفوقت عليهم في أحيان كثيرة جدا ، لم
تصنع إسرائيل بكل تأكيد هذه الصراعات بل غذتها وإستخدمتها بما يتطابق مع
مصالحها العليا ، وقد أنجزت الكثير الكثير بهذا الإتجاه ، رغما عن التعارضات في
أحيان كثيرة مع المصالح العليا للدول الكبرى ، أما مسرح عملياتها الأخير في سوريا
فهو الأخطر بكل تأكيد ، وهو البلد الخارج للتو من حرب أهلية على مدى اربعة عشر
عاما ، بناه التحتية والإقتصادية شبه مدمرة ، وفي حالة هشاشة أمنية كبرى ، يقع تحت
طائلة ورغبات الضامنين الكثر ، لن تسمح إسرائيل بمطلق الأحوال لها لأن تتحول الى
دولة قوية تناصبها العداء ، ولكن في أحسن الأحوال فهي تسعى لأن تكون دولة مستقره ،
لا تمتلك جيشا قويا ، ترتبط معها بمعاهدات سلام من قبيل إتفاقيات السلام المصرية
والأردنية ، وان لم يكن فدولة فاشلة تعج بالصراعات الإثنية والطائفية ، تستطيع أن
تمتد لها الأذرع الأمنية الإسرائيلية وتعمل فيها بسهولة ويسر ، وحتى وإن كانت
مصالح العالم مجتمعين تتناقض مع هذا التوجه ، فالقصف الأخير للرموز السيادية
السورية ومنع القوات من الدخول للسويداء ، تتناقض بكل تأكيد مع رؤية القوى النافذة
في العالم ، فاضطروا لإيجاد مقاربات بين رؤيتهم والرؤية الإسرائيلية بالسماح
بتواجد محدود للقوى الرسمية السورية كقوة فض إشتباك وليس أكثر من ذلك .
لن تكن إيران وأذرعها في المنطقة والخارجة للتو من هذا
البلد بهزيمة كبرى ، لتسلم بكل هذه التغييرات الجارية هناك ولا بالسيطرة
الإسرائيلية أو التركية ايضا ، فهي تسعى وبشكل ثابت عبر القوى المؤيدة لها لإحداث
عدم الإستقرار في هذا البلد ، وعدم تمكين نظام الحكم الجديد من بسط نفوذه بما
يتعارض مع المصالح العليا الإيرانية ، وعلى رأسها قطع الخط الواصل ما بين ايران
فالعراق فسوريا وصولا الى لبنان ، فأحداث الصراع مع العلويين التي سبقت هذه الموجه
من الإضرابات مع الدروز ، كانت البصمة لإيرانية واضحة بها تماما ، حيث وعلى عدة
موجات من الصراع والعنف أحدثت أضرارا واسعة في النسيج المجتمعي ، وهي وبكل تأكيد
لن تألوا جهدا في تغذية الصراع الراهن مع الدروز ، ولها من الإمكانيات ما يتيح لها
العمل على ذلك ، لناحية القوى الحاضرة على الأرض المتضررة بشدة من التغييرات التي
جرت بهذا البلد ، وبخاصة في ضوء ما تعرضت له ايران من تدمير لتاج قوتها ونفوذها في
المنطقة وبرنامجيها النووي والصاروخي ، والذي تم الدفع بهما سنوات للخلف ، وما
سبقه من أضرار قد لحقت بذراعها الأقوى حزب الله ، وما يحدث في غزة وتدمير لأذرعها
هناك ، إذن لا بد من أعادة لملمة بقايا ما كان يعرف سابقا بمحور المقاومة ، والأرض
الأكثر خصوبة للعمل عليها هي الساحة السورية نظرا للهشاشة الأمنيه هناك .
تركيا هي حاضرة بكل قوة في سوريا ، فهي صاحبة مشروع
التغيير في هذا البلد ، فقد إستفادت من تداعيات الحرب الإسرائيلية مع المحور
الإيراني وأهمها جوارها السوري ، لتقود توافقات دولية لإسقاط نظام بشار الأسد ،
وإحلال نظام قابل للإحلال والتطويع تركيا وعربيا ، وتسويقه دوليا ما أمكن ، حيث
نجح هذا المشروع نجاحا غير مسبوق ، فبالضمانات التركية والعربية تم تسويقه في
دوائر القرار الغربي وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية الأمريكية ، وقد أسهمت
التفاهمات التركية الأمريكية في حلحلة أحدى المعيقات الكبرى المتعلقة بالملف
الكردي ، لكن هذه التوافقات بمجملها إصطدمت بالرفض الإسرائيلي ، لتضارب مصالحها إستراتيجيا
مع وجود نظام من منشأ فصائل الإسلام السياسي هناك ، لعدم يقينها بأن التوجهات
المعلنة من قبل النظام القائم تتطابق مع ما تخفيه طبيعته الفكرية .
ثلاث أجندات أساسية تشتبك في سوريا ، (اسرائيلية ، تركيه
، ايرانية) ، وأجندات عديدة أخرى ثانوية تتنوع ما بين ما هو محلي وإقليمي ودولي ،
قد تتضارب إستراتيجيا في محطات كثيرة ، وقد تتطابق جزئيا أو كليا في محطات أخرى ،
فالنظام الحاكم وجد نفسه أمام صراعات ما أن ينتهي من إخماد أحداها حتى ينفتح آخر ،
ولتعود الكرة مجددا ، فالمكونات المجتمعية للشعب السوري وبعد تفكك نظام الأسد ،
وجدت الفرصة مواتية تماما لتحديد موقعها ما بين هذه المكونات ، قبل أن يرسي النظام
القائم وقائع على الأرض ، ويصبح معها من المستحيل إجراء أي تغيير لاحقا ، قد لا
يبحث أي من المكونات عن الإنفصال التام عن الدولة المركزية في دمشق ، ولكنها تبحث
عن تثبيت خصوصيتها ومكانتها وسط هذه الفوضى العارمة .
خلاصة القول :ـ
تعليقات
إرسال تعليق